لا أتحدث عن مرارة الخيبة التي منينا بها ليلة أمس الأول، بعد مباراة كرة القدم بين «فريقنا لكرة القدم» والمنتخب الوطني الكويتي الشقيق.
أتحدث عن الطعم المرّ الآخر، الذي يتذوقه من ابتلاه الله به لحكمة يعلمها سبحانه، ولأن المرارة أصبحت اليوم مقرونة بالأوكسجين الذي نتنفسه، فإنني سأحدثكم عن مرارتين عشتهما وكلما ذكر المر والمرارة على مسمعي، أتذكرهما:
كنت في طفولتي أعاني مشكلة ما في معدتي، وكانت وصفات العلاج كلها «عربية»، ولا أنكر بأن في بعضها شعوذة ورأي نسوان ووصفات ختيارات، لكن المرارة التي كنت أبدأ بها يومي كانت متعلقة بالشيح والجعدة والقيصوم.. وكل النباتات الموصوفة علاجا للمغص وآلام المعدة.. فكانت أمي العزيزة أطال الله في عمرها، ورغم اكتناز برنامجها الصباحي بالواجبات، كانت «تغلي لي الجعدة أو الشيح»، وكنت أشرب كأسا قبل أن أتناول أي شيء، وحين لا تجد أمي الوقت لغلي الشيح والجعدة، تعطيني إياها جافة بعد أن تفركها بيديها، وتقول لي هي شوية جعدة «إلهمهن».. وكنت ألهم بكل رضى، وأعتقد بأنني أكثر مواطن أردني ابتدأ صباحاته بشرب محلول الجعدة والشيح او «لهمهما»، المهم أن الله منّ عليّ بالشفاء من تلك الحالة في عمر الـ16 عاما تقريبا.
وثمة مرارة أخرى، عنيفة ومرعبة، وتصلح لأفلام الرعب وأفلام الشعوذة، وكانت بالكامل وصفة جاهلة من إحدى النساء، لكنها لا تتعلق بي شخصيا، حين مرض المرحوم «وعد ابن عطالله» عام 1990، وكان عمره حوالي 20 عاما، ولم أعرف حقيقة مرضه، وكل ما عرفت بأن ركبة قدمه متورمة جدا، ولم يعرف الأطباء العلة (هكذا قيل لي)، لكن والدته المرحومة أم عاطف، لجأت إلي باعتباري رجل المهمات الصعبة والمستحيلة، وقالت: خالتي يا ابراهيم قالوا إلي لازم أدهن رجل وعد بمخ رجل حمار ميت ولعدة أيام، وإن شاء الله يشفى، طبعا استهجنت الوصفة والطب، وكنت واعيا بما فيه الكفاية لأعلم بأنها وصفة إحدى الختيارات، حيث لا تقوى الأمهات على رفضها وتجريبها في مثل تلك الحالة، وتفذت ما طلبت مني أم عاطف «برضى».
المهم، بعد أن عدت من الجامعة وقت الغروب (ربما كان برفقتي صديقي أحمد ابن طالب أو صديقي معن ابن يعقوب)، حملت منشار حديد، وبحثت في الليل عن حمار ميت، ووجدته في منطقة بين قريتنا الربة وقرية الروضة، قطعت قدمه الأمامية اليمنى وكذلك الخلفية، حيث لم أقم بقلب الجثة المتحللة، وعدت لبيت أم عاطف أحمل بيدي كيس «شميمتُه» أحمل أطراف الحمار بشعرها وشحمها ولحمها، ولم يكن معي أدوات لاستخراج نخاع عظم الحمار، وبعد جهد، وجدت نفسي أضع فمي على العظم من أحد أطرافه، وأنفخ داخله، ليخرج من الجهة الأخرى سائل خاثر، هو العلاج المطلوب.. ولا يمكنني ان أصف شدة مرارة العظم الذي كان في فمي وأنا أنفخ، لقد استمرت «النمنمة» في شفاهي ومقدمة فمي لمدة ثلاثة أيام، من شدة المرارة..!! وكانت أم عاطف تدهن العلاج على ركبة وعد، ولم يمض وقت طويل، وتمت عملية بتر لساق وعد (كان وعد أشقر، يعزف لنا على العود ويغني ريدها ريدها)، فاكتشفت عندئذ بأن المرض كان «خبيثا»، وأن علاج الختيارات لم ينفع... ثم انتقل وعد الجميل إلى رحمة الله، فرحمه الله ورحم أم عاطف.
الأسماء حقيقية، والأفعال أيضا، وتلك المرارة مألوفة بدورها وحقيقية، تعود لنا في حياتتا لكن بأشكال أخرى، لكنها تصبح بطعم «حلو» حين نصبر، وتمرّ.. دوما تمرّ.
نحن في الأردن موعودون دوما بالأجمل، وكثيرا يتسلل الخبث إلى وعودنا، لكننا في هذا البلد «الحلو»؛ نصبر، وصدقوني بأننا ننجح «دوما».