في عالم السياسة الدولية، الصور ليست مجرد لقطات عابرة ، بل رسائل سياسية بليغة ، وقد تجلى هذا بوضوح في قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) الأخيرة في ليما، بيرو، حيث أظهرت الصورة الجماعية للقادة تحولاً جيوسياسياً عميقاً ، حيث صعود الصين كلاعب محوري على الساحة العالمية، مقابل انحسار الدور التقليدي للولايات المتحدة ، في الوقت الذي لم تكن وضعية القادة في الصورة مجرد ترتيب عشوائي، بل رسالة استراتيجية ، فقد احتل الرئيس الصيني مركز الصدارة في الصف الأمامي، بينما ظهر الرئيس الأمريكي في الخلفية ، وهذه الرمزية تعكس واقعاً جديداً يتشكل، حيث باتت الصين تتصدر المشهد العالمي اقتصاديًا وسياسيًا، بينما تواجه واشنطن تحديات غير مسبوقة على صعيد نفوذها التقليدي ، والصعود الصيني في أميركا اللاتينية ليس وليد اللحظة ، فخلال العقود الأخيرة، تحولت الصين إلى الشريك التجاري الأكبر للمنطقة، متجاوزة الهيمنة الأمريكية التاريخية ، وفي مطلع الألفية، لم تكن التجارة مع الصين تمثل سوى 2% من إجمالي صادرات أميركا اللاتينية، لكنها الآن تضاعفت بشكل هائل، مسجلة نمواً بأكثر من 26 ضعفاً ، في حين أن
الصين لا تكتفي بالتجارة فقط، بل توسع نفوذها من خلال استثمارات استراتيجية، مثل تمويل ميناء تشانكاي في بيرو بمبلغ 1.3 مليار دولار ، ورغم قلق واشنطن من الأبعاد العسكرية لهذه الاستثمارات، فإن النهج الصيني يركز بشكل أساسي على النفوذ الاقتصادي، مما يجعلها قوة ناعمة قادرة على إعادة تشكيل العلاقات الدولية ، وفي ظل تنامي نفوذ الصين، تشكل مجموعة البريكس+ إحدى أبرز الأدوات لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية والاقتصادية ، و تضم المجموعة دولاً تمثل ما يقرب من نصف سكان العالم، وتسهم بحوالي 28% من الاقتصاد العالمي و44% من إمدادات النفط ، و تأسست البريكس بهدف تحدي الهيمنة الغربية، وتسعى إلى تقليل الاعتماد على الدولار في التجارة العالمية، مع تعزيز استخدام العملات المحلية ، و
توسعت المجموعة لتشمل دولاً مؤثرة مثل الإمارات، مصر، وإيران، مما يعزز مكانتها ككتلة اقتصادية وسياسية منافسة ، كما تسعى البريكس لتطوير آلية دفع دولية بديلة لنظام "سويفت"، مما يعزز استقلاليتها المالية ويقلل من تأثير العقوبات الغربية ، وفي هذا السياق، تواجه الولايات المتحدة تحديات متزايدة ، مثل : قمة مجموعة العشرين الأخيرة في ريو، التي استضافتها البرازيل، والتي كشفت عن تضاؤل النفوذ الأمريكي ، فبينما كانت الولايات المتحدة تسعى لفرض لغة قاسية في البيان الختامي بشأن قضايا مثل أوكرانيا، نجحت دول البريكس في تخفيف حدة الخطاب، مما يعكس قوة التحالف الجديد ،
كما أن غياب الرئيس الأمريكي عن الصورة الرسمية للقمة الأولى أثار انتقادات واسعة، حيث بدا وكأنه خارج دائرة التأثير ، ورغم التقاط صورة بديلة لاحقاً، إلا أنها لم تحمل نفس الرمزية، مما عزز الانطباع بتراجع الدور الأمريكي ، و
مع اقتراب عام 2025، تجد الإدارة الأمريكية الجديدة نفسها أمام مشهد دولي متغير ، بالتالي التحدي الأكبر الآن يتمثل في إيجاد استراتيجية جديدة لمواجهة التحالفات الاقتصادية الناشئة ، وقد يكون الحل في تعزيز التحالفات التجارية، وتقديم بدائل اقتصادية أكثر جاذبية، بدلاً من التركيز فقط على القوة العسكرية ، فالعالم اليوم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، حيث لم يعد التفوق الأمريكي مضموناً ،و الصراع الجديد يتمحور حول الاقتصاد والنفوذ السياسي، مما يتطلب من واشنطن تطوير أدوات جديدة للتعامل مع التحديات المتزايدة ، والصورة التي التقطت في ليما لم تكن مجرد لحظة عابرة، بل إشارة إلى واقع جديد ، فصعود الصين، وتعزيز مكانة البريكس+، والتراجع النسبي للولايات المتحدة كلها عوامل تشير إلى أن العالم على أعتاب حقبة جديدة ، وفي هذه البيئة المتغيرة، ستتطلب القيادة العالمية مرونة واستراتيجيات مبتكرة لضمان التوازن والاستقرار في النظام الدولي. ناشطة في حقوق الإنسان على المستوى العالمي .