لطالما شكَّلت غزة رمزًا للصمود الفلسطيني، ولكنها اليوم تواجه خطة محكمة لإعادة تشكيل ملامحها جغرافيًا وديموغرافيًا، في ظل حصار إسرائيلي يتعمق يومًا بعد يوم ، هذه الخطة ليست وليدة اللحظة، بل تُنفَّذ تدريجيًا وبأدوات عسكرية وسياسية تقلب الواقع رأسًا على عقب ، من خلال تقسيم القطاع إلى جزر معزولة عبر محاور عسكرية وأمنية، حيث تسعى "إسرائيل" إلى خلق واقع جديد، يحوِّل غزة إلى "سجون داخل سجن" مغلق، مدمّرة بذلك أي أمل في حياة طبيعية للفلسطينيين ، ففي مطلع عام 2024، نشر نائب رئيس بلدية الاحتلال في القدس، أرييه كينغ، خريطة تُظهر تقسيم قطاع غزة إلى مناطق زراعية وصناعية وسياحية، محاطة بحزام أمني يخترق القطاع نفسه ، والهدف واضح: فصل القطاع إلى كيانات صغيرة معزولة تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة ، وهذا التصوّر الإسرائيلي بدأ يجد طريقه إلى الواقع، وقد تكثفت عمليات الاحتلال العسكرية على طول محاور أساسية داخل القطاع ، وهذه المحاور، التي تحمل تسميات إسرائيلية جديدة، ليست مجرد طرق، بل أدوات تغيير جغرافي وديموغرافي تهدف إلى تقطيع أوصال غزة وتحويلها إلى مناطق محاصرة بلا منفذ للحياة ، وللتوضيح نقول :
في أقصى جنوب القطاع، وعلى طول الحدود مع مصر، يقع ما يُعرف بمحور "فيلادلفيا" وفق التسمية الإسرائيلية، أو محور "صلاح الدين" فلسطينيًا ، وهذا المحور يُعتبر مفتاح السيطرة على الحركة بين غزة ومصر ، ومنذ مايو 2024، شنّ الاحتلال حملات عسكرية مكثفة على مدينة رفح، دمّر خلالها معبر رفح تمامًا، وجرف المناطق المحيطة لإقامة منطقة عازلة ، وفي سبتمبر، كشفت تحقيقات عن إنشاء طريق معبّد يمتد على طول المحور، يُستخدم لأغراض عسكرية بحتة، مع تدمير قرى ومناطق سكنية بأكملها مثل قرية السويدية، لتحويلها إلى قواعد عسكرية إسرائيلية ، وتُظهر هذه التحركات نية الاحتلال لفرض سيطرته الكاملة على الحدود البرية، وإحكام قبضته على حركة الأفراد والبضائع، بما في ذلك الأنفاق التي تُعتبر شريان حياة القطاع ، إضافة إلى
محور نتساريم ، والذي شطر غزة إلى نصفين ، ويمثل محور "نتساريم" المخطط الثاني في تقسيم غزة ، والطريق الذي يمتد من الحدود الشرقية للقطاع إلى البحر الأبيض المتوسط يهدف إلى فصل شمال غزة عن جنوبها ، وبدأت ملامح هذا المحور تتضح منذ فبراير 2024، حين بدأت قوات الاحتلال بشق طريق عسكري جديد يُعرف بـ"الطريق 749" ، على جانبي هذا الطريق، دُمّرت مناطق كاملة مثل تل الهوى والزيتون والصبرة، بينما شُيّدت قواعد عسكرية ومنشآت ثابتة ، وهذا المحور، الذي يقتطع مساحة تعادل مدينة غزة نفسها، لا يهدف فقط إلى السيطرة العسكرية، بل يُستخدم أيضًا كأداة لتهجير السكان وتجويع المناطق الشمالية ، مع حصار خانق ومنع للمساعدات الإنسانية، ما يجبر آلاف العائلات على النزوح جنوبًا، في موجة تهجير قسري هي الأكبر منذ نكبة 1948 ، مضافاً لذلك ما يسمى بمحور مفلاسيم ، والذي عزل الشمال بالكامل ، ففي شمال القطاع، برز محور "مفلاسيم"، الذي يهدف إلى فصل بيت لاهيا وبيت حانون عن مدينة غزة ، و بدأ العمل عليه في أكتوبر 2024 بالتزامن مع عملية عسكرية عنيفة أدت إلى نزوح أكثر من 75% من سكان الشمال ، ويأتي هذا المحور كجزء من خطة تهدف إلى تحويل شمال غزة إلى منطقة عسكرية مغلقة، خالية من السكان المدنيين ، والصور الملتقطة بالأقمار الصناعية تكشف عن بنية تحتية عسكرية متطورة، تشمل معسكرات ومرافق لوجستية تسهّل عمليات الاحتلال المستمرة ، ومن خلال هذه المحاور، تسعى "إسرائيل" إلى تحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى ، مثل :
1. تغيير ديموغرافي ممنهج: تهجير السكان من المناطق الحيوية وتقليص الوجود الفلسطيني في الشمال والجنوب.
2. سيطرة اقتصادية وأمنية: إخضاع القطاع بالكامل للحصار، مع التحكم التام في الحركة التجارية والمدنية.
3. إحكام السيطرة العسكرية: تقطيع أوصال القطاع وتحويله إلى مناطق محاصرة سهلة الإدارة أمنياً.
وبالطبع لم تمر هذه التحركات دون ردود فعل ، فمصر، التي تُعتبر الحدود الجنوبية لقطاع غزة جزءًا من أمنها القومي، أعربت عن رفضها التام لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية على محور فيلادلفيا ، و خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى القاهرة في أغسطس 2024، شددت مصر على ضرورة انسحاب الاحتلال من المنطقة الحدودية، معتبرة أن استمراره يُشكّل خطرًا مباشرًا على سيادتها ، ودوليًا، تستمر المطالبات بوقف التهجير القسري والحصار، لكن "إسرائيل" تستفيد من غياب ضغط دولي حقيقي، حيث تُروّج لتحركاتها باعتبارها "إجراءات أمنية" لمواجهة المقاومة الفلسطينية ،
في حين ان تقسيم غزة إلى محاور عسكرية وأمنية هو جزء من سياسة إسرائيلية طويلة الأمد تهدف إلى تدمير أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني موحد ، ومع ابتلاع ثلث أراضي القطاع، وتحويله إلى مناطق معزولة غير قابلة للحياة، يواجه الفلسطينيون معركة وجودية جديدة ، ويبقى السؤال: هل يمكن للمجتمع الدولي التحرك قبل أن تُغلق غزة بالكامل داخل أسوار الاحتلال؟! أم أن القطاع سيظل شاهدًا على أكبر عملية تطهير عرقي حديثة تُنفّذ في ظل صمت دولي ؟! ناشطة في حقوق الإنسان على المستوى العالمي .