في ذروة طموحات الرئيس فلاديمير بوتين لإعادة روسيا إلى الساحة العالمية كقوة عظمى، حققت موسكو تمددًا واسعًا في مناطق استراتيجية، بما في ذلك الشرق الأوسط والقطب الشمالي وإفريقيا ، حيث بنت قواعد عسكرية في سوريا، ودعمت أنشطة مرتزقة "فاغنر" في إفريقيا، وسعت للتنافس مع الولايات المتحدة والصين على النفوذ الجيوسياسي ، ولكن هذه الطموحات بدأت تشهد تراجعًا كبيرًا مع تحول موارد روسيا نحو الحرب المستنزفة في أوكرانيا، ما أدى إلى تقلص قدراتها على ممارسة نفوذها خارج حدودها ، وقد شكلت
سوريا القلعة المتصدعة لنفوذ موسكو ، حيث لعبت القواعد العسكرية الروسية في سوريا، لا سيما قاعدة طرطوس البحرية، دورًا محوريًا في تعزيز النفوذ الروسي في الشرق الأوسط ، وكانت سوريا بوابة لنقل القوات والأسلحة إلى مناطق أخرى، ورمزًا لقوة موسكو في المنطقة ، ولكن سقوط نظام بشار الأسد، الذي دعمته موسكو منذ 2015، وضع مستقبل هذه القواعد في مهب الريح ، فمع فرار الأسد إلى موسكو وتغيير القيادة في دمشق، باتت ترتيبات روسيا في سوريا موضع تفاوض ، وهذا التحول قد يجبر موسكو على البحث عن بدائل استراتيجية، مثل الجزائر أو ليبيا، لكن هذه الخيارات لا توفر نفس المزايا الاستراتيجية التي كانت تقدمها سوريا، وخاصة ميناء طرطوس الذي يتيح الوصول إلى المياه الدافئة ، في الوقت الذي
أدت الخسائر في سوريا إلى طرح تساؤلات داخل الكرملين حول جدوى الاستمرار في التنافس المكلف مع القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين ، ورأى مستشارون مقربون من بوتين أن التركيز على النفوذ الإقليمي أفضل من استنزاف الموارد في ألعاب القوى العالمية ، وفي هذا السياق، قال فيودور لوكيانوف، رئيس مجلس استشاري مختص بالسياسة الخارجية: لم تعد مسألة المكانة والهيبة تستحق الجهد ، يجب على روسيا العودة إلى التفكير كقوة إقليمية ، سيما وأن إفريقيا شكلت ساحة جديدة لطموحات روسيا من خلال دعم الأنظمة السياسية عبر مرتزقة "فاغنر". ولكن انهيار نظام الأسد أضعف ثقة القادة الأفارقة في قدرة موسكو على توفير الحماية، مما يهدد نفوذها في دول مثل السودان وليبيا ومالي ، ويقول المحلل السياسي دانييل دريزنر: "سقوط الأسد يُعد رسالة تحذيرية لأي زعيم يعتمد على الدعم الروسي للبقاء في السلطة."
وجدير بالذكر هنا أنه قبل الحرب في أوكرانيا، أعادت روسيا فتح قواعدها العسكرية في القطب الشمالي لتعزيز نفوذها هناك، ولكن الصراع استنزف الموارد البشرية والمالية، ما أدى إلى تأخر مشاريع استراتيجية مثل كاسحات الجليد النووية ، وفي ظل هذا التراجع، استفادت الصين من ضعف موسكو، ما منحها نفوذًا أكبر على طريق بحر الشمال الروسي، وهو طريق استراتيجي كانت موسكو تحرسه بعناية ، وشهدت روسيا انخفاضًا في عقود الأسلحة مع حلفاء تقليديين مثل مصر والهند بسبب العقوبات الغربية وصعوبات الإنتاج الناجمة عن الحرب ، وكما تزايدت الضغوط الاقتصادية مع تراجع صادرات النفط بفعل المنافسة الخليجية، ما أثر على الإيرادات الروسية في وقت بلغت فيه النفقات العسكرية أعلى مستوياتها منذ الحقبة السوفييتية ، وفي ظل هذا التراجع الشامل، تواجه موسكو خيارات صعبة ، وقد تلجأ إلى تقليص أنشطتها العالمية والتركيز على الدفاع عن مصالحها في أوكرانيا ، و لكن بعض المحللين يتوقعون تصعيدًا روسيًا، سواء في الميدان أو على طاولة المفاوضات، لتعويض خسائرها في سوريا وأماكن أخرى ، و
يقول أوليج إجناتوف، المحلل الروسي البارز: "سوريا قد تكون درسًا استراتيجيًا لموسكو، لكنها تزيد من أهمية أوكرانيا كجبهة أساسية لتحقيق أهداف الكرملين."
وأظهرت الحرب في أوكرانيا أن طموحات روسيا كقوة عظمى تواجه تحديات عميقة بسبب الاستنزاف الاقتصادي والعسكري ، مع تقلص نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا والقطب الشمالي، تبدو روسيا مضطرة إلى إعادة النظر في أولوياتها الجيوسياسية ، وفي ظل هذه الظروف، يبقى السؤال الأكبر: هل تستطيع موسكو استعادة مكانتها في النظام الدولي، أم أن عصر الطموحات الروسية قد شارف على نهايته ؟!! خادم الإنسانية .
مؤسس هيئة الدعوة الإنسانية والأمن الإنساني على المستوى العالمي .