قد يكون من المنصف، وقبل أن نعيب على الإنتاج الدرامي والفني ومحتوى منصات التواصل الاجتماعي «تفاهته ورداءته»، كما يصفه البعض، أن نتساءل أولًا: متى وكيف بدأ التطبيع مع الرداءة؟
لا شك أن الرداءة وانحدار الذوق العام قد أصبحت ظاهرة عالمية، وأزعم أن التطبيع معها بدأ مع انتشار ثقافة «الإكسبرس» المبنية على السرعة والانتشار السريع، والتي صدّرها الغرب إلى العالم. في المقابل، برزت ثقافة «القص واللصق» القائمة على النسخ والتقليد، والتي وجدت طريقها إلى العالم انطلاقًا من الشرق الأدنى. وقد أدى ذلك إلى تغيّر النموذج الإنتاجي، الذي كان يوازن بين الجودة والإبداع، ليحلّ محلّه نموذج يفتقر إلى الهوية والأصالة التي كانت تميّز كل بلد ومكان بطابع خاص ومختلف.
وزاد الأمر سوءًا مع انتشار التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، التي فرضت ثقافة يُقاس فيها الإبداع بعدد المشاهدات والإعجابات، ما عزّز انتشار المحتوى السطحي والرديء على حساب الأعمال العميقة والمتقنة.
محليًا، ما نشكو منه اليوم من رداءة وتدنّي الذوق العام يعود إلى عوامل أخرى إضافية، أبرزها التعامل مع الإبداع باعتباره دخيلًا على المجتمع، وليس نتاجًا طبيعيًا لتفاعل الإنسان مع بيئته. أضف إلى ذلك محاصرته بقيود صارمة ومحاكمات مستمرة، مما أدى إلى تراجع التنوع الثقافي والفكري، وإضعاف التفكير النقدي الذي يُقيّم الأعمال الثقافية والفنية وفق معايير علمية ومعرفية.
ماذا نتوقع إذًا بعد سنوات من الإصرار على رسم ملامح أحادية للشخصية الأردنية، والسعي المستمر إلى توحيد الذوق العام وجعله لونًا واحدًا؟
كم مرة تعرضت مساحات الثقافة والفنون والموسيقا والمسرح والأدب للتضييق؟ وكم مرة خضعت الأعمال الثقافية والفنية لمحاكمات مختلفة، استنادًا إلى ضوابط وقيود تتجاوز كل ما هو متعارف عليه في المنطقة؟ وكيف يقارن هذا الوضع بالتطور المذهل الذي طرأ على الإنتاج الخليجي والمصري فنيًا وتقنيًا؟ حتى الإنتاج السوري واللبناني، وبالرغم من الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة، حافظ على المنافسة، فأين نحن من كل ذلك؟
لقد خضنا لسنوات معارك «دنكشوتية»، تارة نختصم منصات عالمية، وتارة نهاجم المهرجانات والهيئات المعنية بكل أشكالها وسياقاتها. حاربنا الألوان والطعام والملابس، واعترضنا على الحجر والبشر، وقاطعنا السينما والمسرح والغناء والكتابة، وحتى الرياضة كانت مثار جدل ونقاش! ثم نأتي اليوم لنتساءل: من أين أتت كل هذه الرداءة؟
إن تجاوز هذه الحالة يتطلب تحرير الفضاء الثقافي والإبداعي من القيود التي كُبّل بها، وإعادة الاعتبار للفن بوصفه تعبيرًا صادقًا عن المجتمع، لا مجرد أداة للوعظ والتلقين. وحدها بيئة تنافسية حرّة ستحفّز الجودة والتميّز وتكون كفيلة بمواجهة التفاهة والسطحية.
لنتذكر ذلك اليوم الذي ارتجل فيه الفنان هشام يانس على المسرح ليجسّد شخصية الراحل الملك الحسين بحضوره، فانفجر الملك ضاحكًا بمجرد صعود هشام يانس إلى المسرح. ولعلّ ضحكة الملك كانت رسالة للجميع، مفادها أن على الدولة أن تنظر إلى الفن والإبداع كجزء أصيل من الهوية الوطنية، وألا تعتبره مصدر قلق أو إزعاج.