الانتماء للعشيرة ليس أمراً مذموماً، بل هو انتماء فطري، جعله الله في الخلقة السوية، بل من مقاصد الشريعة حفظ النسب، وما توثيق العقود وتشريعها إلاّ من أجل الحفاظ على الأنساب، والسلالات البشرية، وحاربت الشريعة الإسلامية كل ما من شأنه اختلاط الأنساب وضياع النسب، وحرّم التبنّي، وجعله طريقةً غير شرعية في إثبات النسب.
وجاء الإسلام وقد كانت العرب أشد ما تكون تعلقاً بالقبائل وافتخاراً بالنسب، وأصبح ذلك مناط المدح والفخر، فلم يحارب التعلق بالعشيرة، بل حارب التعصب، وما ينتج عن هذا التعلق من ظلم وتخطي حدود العقل والمنطق، فأرسى عدة قواعد في هذا المجال منها: أولاً: ضرورة حفظ النسب والنسل، وأن ينسب الإبن إلى أبيه ولا يجوز ادعاء نسب غير صحيح. وكل ما يوثق النسب يكون من باب تحقيق مقاصد الشريعة (ادعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله).
ثانياً: كل الناس سواء في أصل الخلقة، لا فضل لأبيض على أسود ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، والتكريم يكون للتقوى والعمل الصالح (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى).
ثالثاً: أراد الله عز وجل أن يكون الناس في قبائل وعشائر وشعوب وأمم من أجل التعارف وليس من أجل التنازع أو التفاخر (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
رابعاً: معيار التفاضل بين البشر لا يعود للنسب أو القبيلة أو اللون، بل يعود إلى ما وصفه الله بالتقوى والصلاح وحسن الخلق وحسن العمل وخدمة الآخرين.
خامساً: الوالدان والأقربون أحق بالمعروف والنصح والدعوة والصدقة والبرّ وفعل الخيرات والنصرة.
سادساً: ينبغي على الإنسان أن يقول الحق وأن يشهد شهادة الحق حتى لو كانت على النفس أو الوالدين أو الأقربين، ولا يجوز للإنسان المحاباة من أجل النسب أو صلة القرابة.
ومن هنا ينبغي التفريق بين الحب والتعصب، فالإنسان مفطور على حب والديه وقرابته وعشيرته وقومه ووطنه، لكن هذا الحب يجب أن لا يتعارض مع الحق وأن لا يناقض حب الله عزّ وجل.
التعصب أن يكون الإنسان أعمى عن إدراك الحق وعاجزاً عن قول كلمة الحق، وأن يكتم الشهادة إذا تعلقت بقرابته أو بني قومه فيظلم ويحيف.
وليس من العدل أن ينابذ الإنسان أهله وقومه بلا سبب وليس من العدل أن يظلم الإنسان قومه، أو أن يسلب عشيرته حقهم، فهذا تطرف مذموم كذلك يشبه التعصب لأنه تطرف من الجانب الآخر.
ولذلك فإني أجد المنسلخ من أهله وقومه، دون ميزان حق مخالف للفطرة، ومشكوك في أصالة نسبه، بل يكون ذلك على الأغلب مدعاة للتحقق والبحث والدراسة في غرابة المسلك وغرابة الغاية والهدف.
فليس هناك طريق أجمل من أن ينسجم الإنسان مع الفطرة، وفي الوقت نفسه أن يوطن نفسه على ميزان الشرع والبحث عن الحق، والتزام الصراط السوي القائم على الوسط البعيد عن التعصب المذموم من جهة، وبعيد عن التفريط والإهمال الذي يتجاوز حدود البر والعدل من الجهة الأخرى.
ومن أجمل ما روته السير فعل خالد في حروبه، عندما جعل القبائل العربية وحدات مقاتلة، فاستبسلت في القتال وتنافست في عدد الشهداء وتفاخرت في خدمة الدين والإسلام، وكانت أكثر أمناً وأبعد عن الاختراق، لمعرفة الناس بعضهم ببعض معرفة وثيقة تستعصي على التزلف والمخادعة والمراوغة وسوء الطوية.
rohileghrb@yahoo.com