حلم يعانقني أن أطِير معَ الطِيور الراحِلة، إلى عالم لا أنين فيه ولا وجع يسكن القلب.. لله در قلوبنا كم تحملت وصبرت .. فـ حياتنا الدنيا لا تسير بنا على وتيرة واحدة وعلى وضع دائم إنما هي تتقلب وتتأرجح بنا تأرجح الكرة، فيها نعيش بين سعادة وشقاء، بين يسر وعسر، بين فرح وحزن، بين صفاء وكدر.. هكذا هي الحياة، وهكذا أرادها الله - عز وجلّ - مدّ وجزر، حلّ وترحال، لقاء وفراق، بداية ونهاية؛ قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
أشخاص في حياتنا نحبّهم فيكثر حديثنا وشجارنا معهم، نسخّرهم جلسات استرخاء لأعصابنا، فـ يوم نشكو لهم ويوم نشكوهم لأنفسهم، وبكلّ ما أوتينا من سلبيات نخرج إليهم؛ واضحين كالشمس. نتعرّى أمامهم من معاطف الوقاية من برد المجتمع وحرّه وكيده، نقف أمامهم بغصوننا المرهقة وأوراقنا اليابسة وثمارنا المتيبّسة، ولا نخشى شيئا ولا نخاف لأننا سنعتذر في آخر اليوم ونتسامح ونتعانق ونضحك. ونكره أن يمسّهم سوء أو أن تقترب منهم الآلام، نكره فراقهم وليلة من غيابهم تساوي ألف عام! الذين نحبّهم بشدّة قد ننتقدهم بحدّة لأنّنا نحبّهم بصدق فنقف أمامهم بذاتنا الهشّة ونطلعهم على تفاصيل أحاسيسنا ومشاعرنا ودموعنا وميولنا، نعود برفقتهم أطفالا ونتحوّل بفضلهم أبطالا.
فتخطفهم يد الغياب، يرحلون ويتركون لنا الذكريات في كلّ ركن؛ تحكي عن الماضي ما كان فيه وما ولم يكن. لا يحزننا حدث الموت لأنه حقيقة لا بد منها، بل يحزننا الفراق بدون وداع، تحزننا كل الأفعال الجميلة التي قمنا بتأجيلها إلى الغد، كل اللقاءات التي لم يكتب لها أن تتم. فتتملكنا الحسرة عل كل حدث وفعل لم نقم به، نتوه بين ألم الفراق والاشتياق. فيأخذنا الحنين إلى الماضي بتفاصيله الجميلة، لكننا لا نستطيع التخلص من حقيقة الحاضر المؤلمة، حاضر بمشاعر تائهة تبحث عن عناق لا يمكن أن يحدث، تبحث عن حضن دافئ فلا تجد غير الفراغ. في القلب أوجاع كثيرة صدّعته، وجعلت منه دهليزاً مليئاً بالحكايا التي لا تروى.
(عالم أمي وأبي) عندما كانا معي على قيد الحياة كنت أعيش في عالمين؛ عالم خارجي بضغطه وظلامه نادرا ما أعيش فيه لحظة جميلة. وعالم أمي وأبي.. عالم دافئ يحتويني عالم أعود إليه مهرولا بعد يوم طويل شاق، لكن رغم قساوة يومي كنت اشعر بحنانهم وعطفهم كان العناء يزول.. يمدوننا بطاقة إيجابية تساعدنا على مواجهة يوم جديد بطاقة جديدة، وجودهم كان يجعلني لا أنتظر شيئا من العالم الخارجي ولا يهمني أي شخص لأنني أعلم أن لا أحد يستحق.
في حياتهم كنت أشعر دائما أنني لا زلت طفلة صغيره لا تريد أن تكبر ربما لأن كلامهم وتعاملهم يجعلني دائما أشعر بالأمان والراحة. إذا تأخرت امي تسأل عني وتنتظر قدومي، إذا غبت كانت أول من يسأل عني قبل غروب الشمس لتعرف حالي وتستفسر عن سلامتي. إذا مرضت ترعاني ، كانت تعلم ماذا أحب و ماذا أكره، تشعر بي عندما أكون حزينا دون أن أتكلم فتحاول التخفيف عني بكلماتها الحنينة، كانت دائما تنجح في ذلك.
أما اليوم فقد تغير كل شيء بعد رحيلهم. أصبحت تفاصيل الحياة مملة باردة، لا معنى لها، أصبح نهار اليوم كـ ليله متشابهان ظلاما. ماذا تبقى منا؟؟؟ ما تبقّى منّا قلوبنا وما فيها من عواطف محكمات لا يعلم تأويلها إلّا نحن؛ الراسخون في الألم! هل تعلم كيف تخوض الأيام بقدميك دون قلبك .. ما تبقى منّا عيون نقلبها في أشياء تشبه الحياة ننقّب فيها عن الغائبين، فالموت يأتي فجأة بدون سابق إنذار، مفرقا بين الأهل والأحبة، يجعلنا نخوض الأيام بأقدامنا دون قلوبنا نجلس على طاولة حلم اللقاء..