يبدو أنَّ الولائم أصبحت صرعة الموسم، حيث تُعدُّ مطبخاً سياسياً لا يقل شأنا عن أي صالون سياسي، بل هي صالون سياسي ذو نكهة خاصة ومذاق مميز، وهي تذكرنا بمزرعة الشيخ الجنزير في رواية \"عندما تشيخ الذئاب\" للأديب جمال ناجي.
وبما أنني لا أملك أن أولم للرئيس، ولا أدري أصلاً ماذا يقدم في الولائم، وما الاتيكيت السائد فيها، فإنني تخيلت أني دعوت الرئيس، فاستجاب مشكوراً، فأولمتُ له على ما قُسم. بعد أن حضر وشرفني في شقتي المستأجرة المتواضعة، قدمتُ له القهوة السادة، فتذوقها بلذة وشغف، ثم أحضر أولادي الطعام المكون من قلاية بندورة فاخرة على ضربين، طبق بالبصل فقط ( ب ب)، وطبق بالبصل والبيض (ب ب ب)، وبندورة مقلية (ب)، وسلطة بندورة، وشرائح بندورة طازجة، ومخلل بندورة، وفحل بصل، وخبز مشروح، وطلبت من الرئيس أن يتفضل ويسامحنا على التقصير، فهذا جهد المقل، ومن ساواك بأولاده فقد بالغ في الكرم. بدأ الرئيس الأكل على استحياء، ثم ما لبث أن تخلى عن تحفظه، وأكل بمتعة ظاهرة لا أظنه شعر بها منذ زمن طويل، وعلى الأقل مذ تسلم رئاسة الحكومة.
بعد أن انتهى الطعام ومُسحت الصحون عن بكرة أبيها، أُحضر الشاي، فشرب الرئيس ما شاء الله له أن يشرب، ثم جلسنا نتجاذب أطراف الحديث في الأدب والثقافة وأخبار الأولين والغابرين، وتجنبنا الحديث في السياسة ومشاكل المواطنين وهمومهم، كون هكذا حديث يجلب الغم ويفسد الجلسة الانشكاحية مع الرئيس.
طلب الرئيس بعض الفاكهة كما تعود، فطلبت من أم العيال، فأرسلتها لي مع الأولاد، فقدمتها للرئيس وهي سلامة خيركم، تفاح أحمر قاني (بندورة)، تفاح أسود (باذنجان فاخر)، برتقال (بندورة ذات طعم حامض)، موز أخضر (خيار)، مقبلات من أوراق النعنع والبقدونس لزوم النقرشة وتغيير طعم الفم.
ثم أرسلت في طلب المكسرات، فأحضرها الأولاد فقدمتها للرئيس، الذي أبدى دهشته من نوعية المكسرات وطلب أن أوضحها له، فأخبرته أنني عندما أشتهي المكسرات أحضر صحناً من العدس المجروش أو الحب وأتسلى بها، فهي أرخص من الكاشيو وألذ، وكذلك كسيرات الخبز اليابس، أو الخبز المحمص أو المقحمش، فهي طيبة المذاق وخاصة إن كانت على جوع، أو في سهرة نصف الشهر، وكذلك أتسلى أحياناً بفصفصة بذور دوار الشمس وخاصة بعد استلام الراتب. فهز الرئيس رأسه دلالة على الاقتناع والتفهم.
وطلب الرئيس بعض العصير إن أمكن بعد أن تشردق بالمكسرات، فخيرته بين عصير البندورة أو عصير الحنفية، فطلب الأسرع، فأحضر الأولاد كأس ماء كبير، فتساءل الرئيس عن كنه هذا العصير الغريب، فقلت: سلامة خيرك، عصير الحنفية، فشرب قليلاً ثم تأفف ووضع الكأس، وأخبرني أنه لا يستطيع أن يستسيغه، فقلت: هذه بضاعتكم ردت إليكم، وهذا ما تجود به علينا وزارة المياه. فحوقل وتعوذ ثم صمت مغضباً.
في أثناء الحديث الودي، جاء ابني الصغير باكياً يشكو أخاه أنه يمنعه من اللعب في البلايستيشن، فطلبت أن يلعب على الكمبيوتر، أو بسيارة الهمر في المطبخ، فاستجاب حفظه الله مشكوراً، ولم يفضحني أو يخزني في حضرة دولته.
استأذن الرئيس وهم بالمغادرة، فحلفت عليه أن يبقى ريثما يتذوق الحلوى، فجلس، وسرعان ما حضرت حلوى الكريزة (سميد مع السكر س س) فتذوقها الرئيس ولم يكثر حفاظاً على الريجيم والقوام الرشيق. وقبل أن يغادر قال: أسألك ولا أسألك عن ذنوبك، بصراحة، كم نسبة المواطنين الذين يعيشون في مستواك؟ فأخبرته أن 80% مثلي، و10% دوني، و10% فوق فوق. فهز رأسه ثم ودعني وغادر في حفظ الله ورعايته بعد أن شكرني بحرارة.
لم أستطع النوم تلك الليلة وأنا أنتظر اليوم التالي، متوقعاً قرارات مهمة للرئيس تغير واقعنا البائس، وطال انتظاري، ومساء الثلاثاء (ثلاثاء الأعصاب) صرح الرئيس لوسائل الإعلام المحلية والدولية، أنَّ الحكومة قد نجحت في رفع مستوى المعيشة، وتخفيض حدة التضخم، حيث إنَّ المواطنين يعيشون في مستوى رائع، ودخول مرتفعة، فنسبة 90% من المواطنين –ولله الحمد والمنة والفضل- يقطنون بيوتاً مناسبة، ويأكلون الشكشوكة والجز مز والمكسرات والحلويات، ويشربون العصير الطبيعي، ويمتلكون أجهزة كمبيوتر وبلايستيشن بل وسيارات همر أيضاً.
أغلقت التلفزيون بغضب، وجلست أندب حظي وحظ المواطنين، وأخذت أبكي بشدة، وأتحسر على وليمة ذهبت أدراج الرياح، ولم تُؤت أكلها.
وكل وليمة وأنتم بألف خير، وصحتين وعافية دولة الرئيس.
mosa2x@yahoo.com