كيفما قرأتها -الخمسة فلوس «التعريفة» وتعريفات ترمب الجمركية، مربط الفرس بيد الفارس (المستهلك). والخيل (الأسواق)، من خيّالها (قوى السوق). ما وصفه رئيس أقوى اقتصاد في العالم، الرئيس الأمريكي دونالد ترمب «يوم التحرير» واعتبرها العالم حربا تجارية، كان أول تجليات يوم التحرير الأول، في خطاب تنصيبه لولاية ثانية في العشرين من يناير 2025. الهدف يرجع إلى ولايته الأولى وهو استعادة عظمة أمريكا عبر جعلها الأولوية في أي قرار يتخذه البيت الأبيض والكونغرس والمحكمة العليا، بمعنى السلطات الثلاث كما هو واضح في ترابط حزمة من القرارات والإجراءات التي تم إطلاقها بكثافة في أقل من شهرين، ومازال في جعبة ترمب ومن حوله الجمهوريون، تحديدا حركة «ماغا»، الكثير قبل بلوغ خط السباق الأولي، وهو المئة يوم «عسل» والاستحقاق الأهم في الروزنامة الانتخابية، وهي انتخابات التجديد النصفي للكونغرس أو التمهيدية الرئاسية.
أصغر الوحدات النقدية المعدنية هي حجر الزاوية -الحصوة أو الصرارة «بييبِلْ»- التي تسند الأشياء كلها، ولا يكتملا البناء إلا بها. السنت الأمريكي، الفلس الأردني أو أي عملة أخرى ما هو إلا وحدة العد التي تحدد قيمتها الأصفار يمينا أم شمالا. تلك عملية حسابية، أما ما يتعدى دلالات الأرقام المحاسبية فهو ذلك السلوك الاقتصادي الذي يتصرف به المستهلك، المنتج، المستثمر، الصيرفي، الهيئات المالية، عمومية حكومية كانت أم أهلية خاصة. السؤال لم يعد كما في ذلك البرنامج الشهير «من سيربح المليون؟» السؤال الأولى طرحه على الناس كافة هو «من يصرف التعريفة أو النّكِل؟ وكيف؟». هل يبقى السلوك الاقتصادي الاجتماعي استهلاكيا أم يصير انتاجيا والأهم استثماريا؟
من ردود الأفعال العالمية والداخلية الأمريكية التي ما هدأت منذ الثاني من نيسان، أدرك من يعنيهم الأمر أن القرار ليس تجاريا ولا هو بالاقتصادي، القرار في جوهره سياسي من الطراز الثقيل. خلافا للهوس الذي يطبع مواقف بعض معارضي وكارهي ترمب ومؤيديه ومحبيه على حد سواء، فإن التوجه العام لولايته الثانية بات يقترب أكثر فأكثر مما يعرف بالدولة العميقة في أمريكا، وهناك من يشطح خياله فيبلغ مدايات عالمية بمعنى الدولة أو الحكومة أو الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للحدود. الهدف هو ضرب البنى التحتية للعولمة تجاريا وماليا، بعدما تم البدء بالأسهل بالعدو الظاهر الذي تغول على حقوق الناس ألا وهو اليسار المنحل المختل في بعديه الايدولوجي والاجتماعي.
ويا لها من مصادفة، أن تكون أولى حروب الإدارة الجديدة الاقتصادية، استهلاكية بحتة وتتعلق بأحد أهم الوعود الانتخابية وهو تخفيض كلف العيش من أسعار المواد التموينية الاستراتيجية إضافة إلى أسعار الطاقة. البيض، ارتفعت أسعاره بشكل جنوني. تبين لاحقا بحسب وزارة الزراعة بأنه من تداعيات الإدارة السابقة، وليس فقط انفلونزا الطيور! سرعان ما تم احتواء الأمر وعاد تكسير الأسعار وليس البيض إلى ما تجاوز 69%! الحل لم يكن فقط بالإنتاج بل بالمقاطعة المدروسة لا الهوجاء، المزاجية أو الانفعالية. تكديس البيض مختلفٌ في أمريكا وأوروبا عن أسواق الشرق الأوسط، ويتعلق الأمر بعمليات تنظيفه والتي تحد من قدرته على الصمود على الأرفف، لخسارته المادة الطبيعية القادرة على حماية البيض من الفساد حيث يتم غسلها وتنظيفها لأسباب تتعلق بالسلامة العامة على أن يتم التبريد والاستهلاك بمعايير ومواقيت محددة.
أسهبت في تفاصيل مثال البيض للتدليل على أهمية أخذ المستهلك الفرد زمام المبادرة. الاقتصاد المنزلي الراشد الرشيد الذي تكون نواته الأسرة، تشد من عضدها العشيرة، وتآزرها الحارة أو «المجمع السكني» عمارة كانت أم حيا عمرانيا «سوبر ديلوكس»، هو المحرك الأقوى والأكثر زخما لأي اقتصاد في العالم. سقط زيف التجارة العالمية الحرة وجميع أقنعة العولمة التي بالغت في تغولها إلى حد التوحش، سقط بحمد الله إلى غير رجعة.
بطبيعة الحال، تشكل تعرفات ترمب الجمركية تحديات لها عقول وازنة قادرة على إرشادنا جميعا بكيفية التعامل معها، لكن القرار بأيدينا كمستهلكين، لأنه ما من جهة أكثر حرصا على قوت فلذات أكبادنا منا نحن كأهالي.. الاقتصاد المنزلي والمجتمعي قادر على التعامل بمرونة وكفاءة مع كل ما يلزم. أما تفاصيل كتلك المتعلقة بالمناطق الحرة والوصول إلى الأسواق العالمية فتلك لها أهلها من صناع القرار الحكماء على مستويات أعلى في القطاعين العام والخاص. أيا كانت نسب التعرفات الجمركية، السياسة التسعيرية، إجراءات استقطاب الاستثمار الخارجي والوطني، أسعار صرف العملات، دولارا أو دينارا أو يِنّا، كلها تبدأ بالقرار الأهم: كيف نصرف التعريفة أو «نصمّدها» حتى يصمد المستهلك والمنتج والمستثمر أمام هذا التسونامي السياسي! القضية ليست تجارة بل إمارة..