فقط تخيّل، للحظة واحدة، أنّك أنت والد الطفل صالح، وقد فقد ابنك عينه، بلا أدنى سبب، سوى أنه تناول شربة ماء من غرفة المعلمين، لينقضّ عليه معلّم جاء إلى أرقى مهنة في الوجود، لأنه لم يجد غيرها، بأي ثمن في الكون يمكن تعويض عين صالح!
في المقابل، تخيّل نفسك أحد معلّمي تلك المدرسة في العقبة، وقد تعرّضت مع عدد من زملائك لاعتداء بشع على يد الأهالي، ولم تجد أي جهة حكومية ترد لك كرامتك وتدافع عنك، هل سيبقى لديك درجة واحدة تتمسّك بها من قُدسية رسالة التعليم؟ وهل نلوم المعلّمين اليوم على ما نسمعه من تخبّط ولامبالاة تجاه مهنتهم!
قبل قرابة عامين، تمّ الاعتداء على معلمين في مدرسة أبو علندا بصورة وحشية، من قبل بعض الأهالي باستخدام أنابيب حديدية، وسالت دماء هؤلاء المعلمين وأهينوا على مرأى ومسمع من طلابهم، ثمّ جاء وزير التربية والتعليم حينها ليقف في الطابور الصباحي ويعلن نهاية المشكلة بـ"عطوة"، مختتماً بالقول "الصُلح خير"!
لا أملك سوى مرارة شديدة عندما أتذكر بعض هذه القصص المؤلمة الموُجعة التي مرّت علينا خلال السنوات الأخيرة وتحكي فصول رواية انهيار التعليم العام.
يا ناس؛ ما يحدث منذ سنوات يتعدّى معارك طاحنة بين المعلّمين والطلاب، وقصص مرعبة في مدارسنا، ويتجاوز مأساة التوجيهي هذه السنة، إنّه جريمة بحق التعليم، وبحق الميراث العظيم الذي وضعه من أسسوا هذه المؤسسة الرائعة وخرّجوا كفاءات ومهارات أصبحت أهم الموارد الوطنية والثروة المحلية.
تحدّث معي قبل أسابيع قليلة، كان صوته حزيناً، قال لي "أنا معلّم في المدارس الحكومية منذ سنوات طويلة، وأشاهد بأُمِّ عيني التدهور المروع، أسألكم الله أن تفتحوا هذا الملف الخطير، ليس لي مصلحة، فابني الوحيد درس ويعمل، وسأتقاعد قريباً، لكنني أبكي كل يوم، عندما أشاهد الحال التي وصل إليها التعليم الحكومي".
هذه شهادة من مئات الشهادات للخبرات التربوية والعلمية الأردنية تجمع أننا في وضع يتجاوز المشكلة إلى الكارثة تحطّ رحالها في هذه الوزارة الحيوية، التي ترسم مستقبل البلاد والأجيال المقبلة.
في السنوات الأخيرة، تمّ إهمال التعليم الحكومي، وقيمة المعلّم وصلت الحضيض اجتماعياً واقتصادياً، ما جلب الرسالة بأسرها إلى القاع، فيما بدأت الطبقية تتجذّر في مخرجات التعليم، بين "الأقل حظّاً" في التعليم والبيئة المدرسية المقلقة و"ذوي الحظ" الذين يتمكّن أهلهم من تدريسهم في القطاع الخاص، وهؤلاء فئات أيضاًَ بحسب الوضع المالي.
لقد بُنيت الدولة على قاعدة ذهبية "الإنسان أغلى ما نملك"، وبالفعل أصبح الأردني إنساناً متقدّماً عربياً، وساهمت وزارة التربية والتعليم تاريخياً بقسط وافر من هذه المهمة، فلماذا نُخرب بيوتنا بأيدينا اليوم، ونهمل بهذه الوزارة الحيوية ونتلاعب بمصيرها وسياساتها؟! لماذا انقلبت الحكومات المتتالية على تلك القاعدة، فأصبح الإنسان لديها هو المستباح، من يقرع جرس الخطر: الحريق قادم!
يا صالح؛ هل أصاب الرمد عيوننا، فلا نشاهد مدارسنا قد وصلت إلى هنا.. الآن!