أصبح تشكيل لجان تحقيق للنظر في أخطاء وتجاوزات حكومية بمثابة "طرائف"، يتهكّم بها المواطنون على مدى جدّية الحكومة في محاسبة المسؤولين، وإثبات مصداقيتها أمام الرأي العام.
فعلى الرغم من مرور أسابيع على "كارثة التوجيهي"، التي قال عنها وزير التربية والتعليم إنّها مجرّد "خطأ فني"، فإنّ لجنة التحقيق الوزارية، برئاسة وزير العدل، لم تقدّم نتائجها بعد للرأي العام عن المتسبب بهذا الخطأ الفادح.
قبل ذلك، كانت لجان تحقيق عديدة تشكلها الحكومات للنظر في الأخطاء لا تصل إلى نتائج معلنة أمام الرأي العام، أو تكتفي بتحميل صغار الموظّفين المسؤولية عن تلك الأخطاء، فتقدّمهم "كبش فداء" لحماية المسؤول الكبير، وتتجاهل تلك اللجان مفهوم المسؤولية الأدبية والأخلاقية، التي تبدأ تبعاتها من رئيس الوزراء وتصل إلى حدود أصغر المسؤولين في الهرم الوظيفي والمؤسسي!
إذ لم يعرف الرأي العام إلى ماذا انتهت لجنة التحقيق في الاعتداء الوحشي على عاهد علاونة، الذي فقد القدرة على العمل، ولا في قضية الاعتداء على الزميل ياسر أبوهلالة وغيرهما، ولا في العديد من قضايا كبيرة في الوزارات والمؤسسات المختلفة، التي شغلت سابقاً الرأي العام، وهربت الحكومات من استحقاقاتها بتشكيل لجان تحقيق.
بات في العرف الشعبي والسياسي أنّ الهدف من تشكيل لجان التحقيق مع كل كارثة أو خطأ يورط الدولة ويتضرر منه الناس هو فقط للفلفة أي موضوع والتغطية على تبعاته. وباتت هذه اللجان جزءاً من لعبة القط والفأر بين الحكومة والرأي العام، وأحد مسارب "التنفيس" البائسة التقليدية، لامتصاص حالة الغضب، والتحايل على منطق المحاسبة الفاعل والحقيقي.
الأصل أنه في ظل غياب مجلس نواب، فإنّ لجان التحقيق تتحول لتصبح أداة المحاسبة والمساءلة الرئيسة للسلطة التنفيذية على التقصير والأخطاء داخل النظام السياسي، وفي حال "فرّغت" الحكومة هذه اللجان من محتواها فإنّ مصداقية الدولة هي المتضرر الرئيس من ذلك.
رئيس الوزراء أولاً ومعه الفريق الحكومي كاملاً هم من يدفعون، في نهاية اليوم، ثمن الاستخفاف بعمل لجان التحقيق وإضعافها. ففي المحصّلة سيأكل ذلك من شعبيتهم، ويعزز من الفجوة القائمة بين الحكومات وبين الشعب في استطلاعات الرأي العام.
المنطق السليم في عمل الأنظمة السياسية والإدارية في العالم، أنّ المخطئ والمسيء أو المهمل والمستهتر يتحمّل مسؤولية عمله. وفي الأنظمة المحترمة الراقية التي تحرص على سمعتها ونزاهتها وصورتها أمام نفسها والرأي العام، فإنّ مفهوم المسؤولية الأدبية والأخلاقية والسياسية يأخذ مدىً واسعاً وكبيراً لتكريس مبدأ المحاسبة للمسؤولين الكبار قبل الصغار، ولحماية قيم العمل المؤسسي والسياسي من الانهيار.
لا يضير أي حكومة أو نظام سياسي أن يستقيل وزير أو موظّف كبير أو حتى رئيس وزراء أو يقال إذا كشف تحقيق أنه المتسبب مباشرة، أو أدبياً، في خطأ ما، فذلك من علامات القوة لا الضعف، أما التستر على الأخطاء والمخطئين، فإنّه يعكس صورة عن خلل أوسع وأكثر تجذراً وعمقاً يصيب مفهوم الإدارة العامة وكفاءتها.