كنت فتى لمّا يتجاوز العاشرة، مزهوا بـ"بوط" الأصابع الجديد، وبطاقية جلبها أحد أقاربي من "الحج"، أحاول أن ألهو ما بين الحصتين، حيث كان ثمة خمس دقائق استراحة رحت خلالها أمازح زملائي في الصف الرابع (ج) بمدرسة وكالة الغوث بمخيم الحسين، حين لمحني مدرس الاجتماعيات الأستاذ صالح، فاستدعاني على الفور.
كان الأستاذ يثني دائما على اجتهادي وترتيبي ويمتدحني لما كان يجده، ربما، فيّ من اختلاف عن أقراني، لكنّ ذلك كله ما شفع لي حين هوت يد الأستاذ صالح الذي يبلغ طوله زهاء 195سم، على وجهي، حتى إن الطاقية من شدة الصفعة طارت في الهواء من الطابق الثالث في المدرسة حيث نقف.
ما أذكره أن شيئا انكسر في داخلي آنذاك، حيث بقيت صفعة الأستاذ صالح (أصلحه الله!) مطبوعة على خدي عدة أيام.
كان ذلك قبل زهاء 34 عاما، حيث لم نكن حينها نسمع، ما يتردد هذه الأيام، عن حقوق الطلبة، ولا عن اعتبار الاعتداء عليهم خطاً أحمر، ولا عن تقديم من يتجاوزون على الطلبة إلى محاكم تحقيق، كما هو الأمر في أيامنا الجاريات الآن قدّام ناظريْنا.
وحتى حينما انتقلنا إلى المرحلة الثانوية في مدرسة الشاملة للبنين بجبل الحسين، وأصبحنا قاب قوسين من الانتقال للمرحلة الجامعية، ظل ضربُ الطلبة أمرا طبيعيا، ولن أنسى ما حييت حينما ضاق أحد زملائنا في التوجيهي ويدعى "يعقوب" بالضرب المتواصل والشتم الذي لا ينقطع والذي كان أحد أبرز ضحاياه، فما كان منه إلا أن "غامر" بالتوجه إلى مديرية التربية لتقديم شكوى بمعلمي المدرسة ومديرها الذين كانوا يسومون الطلبة سوء العذاب والإذلال.
ولما اعتقد "يعقوب" أنه أنجز أمرا لم يسبقه إليه أحد، كانت عصا المدير الذي لم يكن يبلغ طوله 155 سم، بانتظاره إذ وشى مدير التربية بالطالب الذي قدم الشكوى، فانهال عليه المدير بالضرب، وأصر على تمريغ وجهه بالأرض، وطلب منه أن يلتحق بصفه من دون أن يسمح له بالاغتسال، لكي يكون دليلا على من تسوّل له نفسه الشكوى على المدير الذي كان يدعى "جميل" وأدعو الله أن يجعل باقي أيامه مترعة بالجمال!
كان ذلك في العام 1984، ولم نكن حينها قد بلغنا مرحلة الانفراج الديمقراطي، وبالتالي لم نكُ نسمع شيئا عن حقوق الطلبة، والدعوات لحمايتهم من الأذى وسوء المعاملة، وإلا لما كان مألوفا، وربما عاديا ومتوقعا، مشهدُ طالب طارده المدير بعصاه الغليظة حتى تدحرج عن الدرج فكسرت ذراعه ووضعت في الجبس!
وكأن لا مياه مرت تحت الجسر منذ ذلك الحين حتى اليوم الذي تتكاثر فيه دعوات حماية الطلبة من الأذى، وإلا لما فقئت عينا محمد الهويمل، وصالح الدرادكة على يدي أستاذيهما، وإلا لما أضحى رؤية المعلمين يتجولون في ردهات المدارس مشهرين عصيّهم وخرزاناتهم تقليدا لا تكاد تخلو منه مدرسة حكومية للبنين أو للبنات.
سينبري من يقول إن على المعلم أعباءً شديدة، وأن حقوقه منقوصة ومهملة، وأن الطلبة لا يتعلمون إلا بالعصي والجنازير، وأنا أرى أن هذا تبرير سخيف وذر رماد في العيون.
ما يحدث في مدارسنا يرقى إلى الجريمة، لذا لا غرو أن نرى جيلا ضائعا متمردا ناقما يتغذى على العنف، ويفتقر إلى مقومات الإبداع.
أنقذوا المدارس، أو حوّلوها إلى سجون!