زاد الاردن الاخباري -
عمان - كان قرار التعريب في الأول من آذار (مارس) العام 1956 امتداداً طبيعياً وموقفاً مبدئياً للنهج الذي اختطته القيادة الهاشمية على طريق الاستقلال والوحدة والحرية والحياة الفضلى منذ أن أعلن شريف مكة الحسين بن علي طيب الله ثراه ثورة العرب الكبرى في العاشر من حزيران (يونيو) العام 1916 مبيناً فلسفة الثورة الفكرية بقوله المشهور "إن قومي وبلادي وديني أحب إليّ من أي شيء في هذا الوجود".
وكان عليه الرحمة مدرسة في المواقف والمبادئ فهو القائل "لقد تنازلت عن عرشي وملكي حتى لا أفرط بفلسطين ومقدساتنا وما فيها من مثل هذه الكنوز ونصيحتي لأبناء هذه البلاد أن عليهم بوحدة الصف والاتحاد".
ولما تكشف له غدر الحلفاء ونكثهم للعهود والمواثيق التي قطعوها له وبدأوا يساومونه على التنازل عن فلسطين جاء رده الحازم المبدئي "لن أتنازل عن مبدأ واحد من المبادئ التي هي أركان النهضة العربية ولا أتنازل عن حق واحد من حقوق البلاد لا أقبل إلا أن تكون فلسطين لأهلها العرب، لا أقبل بالتجزئة ولا أقبل بالانتدابات ولا أسكت وفي عروقي دم عربي، عن مطالبة الحكومة البريطانية بالوفاء بالعهود التي قطعتها للعرب، إذا رفضت الحكومة البريطانية التعديل الذي أطلبه فإني أرفض المعاهدة كلها، إني عامل دائماً في سبيل الوحدة العربية والاستقلال التام، أقول الاستقلال التام للأقطار العربية كلها ولا فرق عندي إذا كان مركز الحكومة العربية في الحجاز أو في سورية أو في العراق أو في نجد".
ولما لم يتحقق للشريف الحسين بن علي كل ما أراده ويصبو إليه من الاستقلال والتحرر والوحدة نظراً لمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية المتمثلة بغدر الحلفاء وذلك بتقسيم الوطن العربي ووضعه تحت الانتداب ثم إصدار وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، في ظلال تلك الظروف الدولية التي تمخضت فيها الحرب العالمية الأولى عن انتصار الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، روسيا) على دول المحور (المجر، النمسا، ألمانيا، تركيا) حمل الراية أبناء الشريف الحسين بن علي أصحاب السمو عبدالله وفيصل، وعلي، وزيد وكان وصول سمو الأمير عبدالله بن الحسين إلى معان يوم 11 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1920 ثم إلى عمان مرحلة جديدة في العمل العربي، فقد أنعش مجيئه الحركة الوطنية وأعطاها الأمل من جديد فبدأت المقاومة الفعلية للاستعمار حيث كان بانتظاره أحرار الأردن فكما كان الأردنيون هم المضمون الشعبي للثورة، كذلك كانوا من قادة جيشها النظامي، من أمثال محمد علي العجلوني ، وخلف التل، وعوده أبو تايه وعبد القادر الجذي .... الخ. وأصدر سمو الأمير عبدالله بن الحسين بياناً حدد فيه أهداف مجيئه إلى الأردن: 1. تلبية لنداء الأحرار: "كل عربي يعلم أنكم يا أبناء سورية تستنصرونه وتستثيرون حميته ليأتيكم مسرعاً ملبياً مقبلاً غير مدبر، ومن حيث قد توالت علينا الدعوات، وصمت أذاننا الصرخات، فها أنا قد أتيت، مع أول من لباكم .... نشارككم في شرف دفاعكم، لطرد المعتدين عن أوطانكم ، بقلوب ذات حمية ، وسيوف عدنانية هاشمية".
2. تأكيد الوحدة العربية "ليعلم من أراد إهانتكم، وابتزاز أموالكم وإهانة علمكم واستصغار كبرائكم، أن العرب كالجسم الواحد إذا شكا طرف منه اشتكى كل الجسم".
3. تأكيد الحس التاريخي للثورة "كيف ترضون بأن تكون العاصمة الأموية مستعمرة فرنسية؟! ... إن رضيتم بذلك فالجزيرة لا ترضى، وستأتيكم غضبى، وإن غايتنا الوحيدة هي كما يعلم الله نصرتكم وإجلاء المعتدين عنكم".
4. جاء نائباً عن أخيه جلالة الملك فيصل وقد أكد أنه سيعود للحجاز بعد إتمام مهمته: "وها أنا ذا أقول، ولا حرج، بأنني قد قبلت تجديد بيعة مليككم فيصل الأول، عن الأكثرية الغالبة التي جددت تلك البيعة على يدي وإنني سأعود إن أبقاني الله حياً، إلى وطني يوم نزوح عدوكم عن بلادكم، وعلى هذا اليمين بالشرف، وأمركم حينئذ لكم، وبلادكم بين أيديكم، متعكم الله بالعز والسؤدد، والرفاهية والمجد".
لقد قاوم الإنجليز قدوم سمو الأمير عبدالله بن الحسين وحاولوا بكل قواهم إخراجه من المنطقة وشل حركته، وفي هذا المجال يقول إليك كركبرايد في كتابه (خشخشة الأشواك) حول موقف الإنجليز من حركة الأمير ما يلي: "تتوفر الأدلة الوثائقية، على أن الإنجليز بذلوا ما في وسعهم لإقناع الأمير بالعودة إلى الحجاز، وأن قدومه إلى عمان كان مفاجأة تامة لهم".
وتحت إصرار سمو الأمير عبدالله بن الحسين والدعم الشعبي الأردني والعربي له أجبر الإنجليز على تشكيل حكومة عربية في شرق الأردن برئاسة سمو الأمير عبدالله تكون مستقلة استقلالاً إدارياً تاماً، تساعدها بريطانيا مادياً لتوطيد الأمن وتسترشد برأي مندوب بريطاني يقيم في عمان، وبهذه الاتفاقية تحولت حركة سمو الأمير عبدالله من حركة عسكرية إلى حركة سياسية، وكان لهذا التحول أسباب عديدة أهمها أن الوطنيين العرب كانت بريطانيا في نظرهم حليفاً لهم ويتضح ذلك من مذكرات عوني عبد الهادي، أحمد مريود.
تطورت الأحداث بعد ذلك واستغل الإنجليز كل الظروف والحوادث ليتدخلوا تدخلاً مباشراً في شؤون شرقي الأردن وهنا لا يتسع المجال للخوض في تفاصيل الأحداث ولكننا سنلقي الضوء على المواقف المبدئية للقيادة الهاشمية الحكيمة عبر تاريخ الدولة الأردنية الحديثة.
لقد كان سمو الأمير عبدالله بن الحسين في ذلك الوقت القصبة التي تتنفس منها الحركة الوطنية فكان يوجهها في الخفاء (...) وكثيراً ما كان يكتب المقالات في الصحف وبأسماء مستعارة، يثير في الناس روح الوطنية، ولم يكن رحمه الله ليخطو خطوة قبل أن يشاور أحرار العرب وثوارهم، بل وفي تلك الأيام كان أعضاء حزب الاستقلال يتولون جميع المناصب المهمة في الحكومة عند تأسيس إمارة شرق الأردن العام 1921، وعندما عقدت المعاهدة مع الإنجليز العام 1928 ظل سموه يستغل كل فرصة لتعديلها لصالح البلاد، بل لقد كانت المعاهدة ذاتها خطوة على طريق الاستقلال الكامل ، ولقد شرح فلسفته في المعاهدة للأستاذ تيسير ظبيان التي ذكرها في كتابه (الملك عبدالله كما عرفته).
إن عبقرية المغفور له جلالة الملك عبدالله بن الحسين طيب الله ثراه تتجلى في مقدرته على تأسيس الدولة الأردنية رغم كل ما أحاط به من ظروف خارجية ومحلية، كان مؤسساً قوي الشخصية انطبعت أثاره الفكرية على مسيرة البلاد السياسية والاجتماعية منذ التأسيس حتى يومنا هذا، فكان رحمه الله استقلالي التفكير. وأشد ما يكون هذا التميز واضحاً في ميدان الفكر والارتباط بالآخرين؛ فقد رفض المؤسس طيب الله ثراه ربط البلاد بالمعسكر الشيوعي حفاظاً على الهوية الدينية والعربية، وميزته الثانية (الواقعية) لقد كان يعرف واقع أمته ومدى مقدرتها على مقاومة الآخرين، لذلك حاول جهده أن يجنب الأمة الصدام العسكري، وأن يحاول استخلاص حقها بالحكمة والروية.
فهو القائل "ما نسعى إليه هو الوصول إلى الغاية التي نتطلبها كلنا (...) وهي تحرير بلادنا جميعها، تحريراً تاماً بالحكمة والنظام". ويقول أيضاً: "إن المقاومة التي تجلب الشر، ليست سوى جريمة والشجاعة الحقيقية هي معرفة الإنسان نفسه (...) وسلوكه مسلك الحق والحكمة، وأن يسعى قبل كل شيء في إعداد نفسه ليكون رجلاً أو أمة".
ووصف نفسه قائلاً "إنني رجل واقعي وتربيتي ونسبي الشريف يحتمان عليّ أن أعيش في الواقع (...) ولكن الواقع هو الذي يؤلم بعض الساسة".
ومن الواقعية والعقلانية انبثقت ميزة أخرى لجلالته تلك هي التدرج المنبثق من النفس الطويل، فلقد كان يسعى أولاً إلى تحجيم الخطر ثم يبدأ بمعالجته بالتدرج حتى يزيله ، وكان يؤمن أن الأيام كفيلة بتحقيق الأهداف.
وفي هذا يقول جلالته "إلا أن لهذه الأمة داء عضالا (...) ألا وهو الملل عن كل عمل يبدؤونه ثم يتركونه".
وكان لتلك الصفات لجلالته الأثر الكبير في تعامله مع مجمل قضايا وطنه وأمته وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية كان موقفه منها نابعا من فهم عميق للقضية ولأحوال الأمة العربية ، وأن ما نادى به جلالته رحمه الله في ذلك الزمان (...) والأمة ممزقة تحت نير الاحتلال والاستعمار، هو بعض ما يطالب به أشد المتطرفين العرب اليوم (...) والأمة ممزقة ولكن بسيوف أبنائها، لقد قبل بالكتاب الأبيض البريطاني العام 1939 ولكنه ثار على قرارات اللجنة الانجلو أميركية العام 1946 لأنها أنقصت من المكاسب العربية في الكتاب الأبيض ولقد دعا إلى قبول قرار التقسيم ولما رفضه العرب طلب إليهم دعم الجيش الأردني ليخوض المعركة وحيداً (...) ولكن الجامعة العربية رفضت اقتراحه (...) ولكنه دخل حرب تحرير فلسطين العام 1948 بكامل جيشه البالغ مقداره في ذلك الوقت 4500 فرد فقط وهو يعلم نتيجتها، ولما بدأ القتال رفض الهدنة لأن جيشه كان في أوج انتصاراته على اليهود، ولما اجتمع العرب لإعلان الهدنة اتصل بأمين الجامعة العربية وقال "إن جيشي سيستمر وحده في خوض المعركة إذا ما وافقتم على عقد الهدنة، وإنني لن أتوانى عن إعلان ذلك مندداً بهذا الاستجداء". ولكنه طيب الله ثراه اضطر لقبول الهدنة عندما أصبح التيار أقوى منه.
الظروف التي اتخذ قرار التعريب في ظلالها
تسلم المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه سلطاته الدستورية في الثاني من أيار (مايو) عام 1953 وكان الجيش العربي بقيادة الفريق الإنجليزي كلوب، وكان الأردن في وضع لا يحسد عليه ويختلف اختلافاً كلياً عن وضع بقية الدول العربية، فالنكبة الفلسطينية أصابت الأردن أكثر مما أصابت أي بلد آخر، إذ قطعت اتصاله بالموانئ القريبة من حدوده (حيفا ويافا) وقذفت بأكثر من نصف مليون لاجئ على سكان الضفتين الذين لا يزيدون على مليون نسمة في ذلك الوقت، ووجد الأردن نفسه مضطراً لمقاومة إسرائيل على طول أربعمئة ميل من خطوط الهدنة، يضاف إلى ذلك فقر البلاد من الموارد الطبيعية واعتمادها على المعونة البريطانية وارتباطها بمعاهدة بريطانية ذات شروط وقيود.
وكانت الاعتداءات اليهودية تدق ناقوس الخطر يوماً بعد يوم وكانت مأساة قرية قبية التي تعرضت لاعتداء إسرائيلي عنيف العام 1953 حيث نسفت المنازل ليلاً على رؤوس أصحابها وقد ظهر تقصير قائد اللواء الزعيم أوشتن في نجدة أهل القرية فأمر جلالة الحسين طيب الله ثراه بعزله فوراً وأمر ببناء القرية وكذلك تعرضت قرية بيت لاهيا قضاء رام الله لعدوان إسرائيلي آخر في 1/9/1954.
وقضية قريتي قبية وبيت لاهيا انتهت بالمليك الشاب إلى قناعة تامة هي ضرورة التخلص من القيادة الأجنبية للجيش، إضافة إلى قناعته بأن الجيش ليس بالمستوى المطلوب لمعركة المصير من حيث درجة التدريب والتسليح فوجه نداءه إلى ملوك ورؤساء العالم العربي للانتباه إلى أهداف الإسرائيليين التوسعية وناشدهم يوم 15 /7/ 1954 لتقديم المساعدة المالية الفعالة للحرس الوطني ولتطوير الجيش فلم تلق الدعوة ما كان جديراً بها من الاهتمام والنجدة والتضحية.
ثم أعلن ميثاق حلف بغداد وقدمت للأردن عروض مغرية للدخول فيه ووجد الأردن في تلك العروض ما ينشد من قوة لجيشه وازدهار لاقتصاده، ولكن الاشقاء الذين لم يقدموا للأردن ما طلبه من معونة واجبة عليهم شنوا حملة إعلامية شرسة على الحلف أدت إلى بلبلة مخيفة داخل البلاد وقال جلالة الملك الحسين رحمه الله كلمته القاطعة التي هي امتداد لمواقف السلف "لا أحلاف" وسأل جلالة الحسين ذات يوم رئيس الأركان (كلوب) عن الخطة العسكرية العامة اتجاه الإسرائيليين واعتداءاتهم المقبلة فذهل جلالته من سلبية الرد فدعا جلالته في التاسع من نيسان (ابريل) العام 1955 إلى اجتماع عسكري بيّن فيه الأخطاء ونقاط الضعف في الموقف العسكري العام منها: 1. يجب أن تتوفر في قيادة الجيش الجدارة والكفاءة.
2. يطلع جهاز القيادة في الجيش بأمور ليست من اختصاصه.
3. يجب أن تقوم الخطة العامة على الدفاع عن كل شبر من أرضنا ويجب أن لا يكون هناك أي تراجع.
4. تنفق أموال الجيش أحياناً فيما هو غير ضروري.
5. الذخائر الاحتياطية غير كافية.
6. إننا في أمس الحاجة إلى سلاح طيران قوي.
7. يجب أن نشكل كتيبة (قوات خاصة) وأن نقوي الاستخبارات.
بهذه المحاور المهمة عبّر جلالته عن عدم رضاه عن القيادة البريطانية وفي هذا يقول جلالته "لقد كان السبب الرئيسي في عزله يقوم على عدم التفاهم بيننا وعلى خلافنا في مسألتين جوهريتين: دور الضباط العرب في جيشنا واستراتيجيتنا الدفاعية (...) لقد كنت أرغب في ترفيع الضباط الأردنيين إلى المناصب العليا في الجيش وفي أن يتولوا قيادته طبقاً لخطة واقعية".
وحول الموقف البريطاني من مسألة التعريب يقول جلالة الحسين رحمه الله " بعد أشهر من المفاوضات التي اتسمت بالصبر والأناه استجيب إلى طلبي لأن انكلترا قبلت أخيراً أن تعرض علينا خطة للتعريب يتم بمقتضاها منح الضباط الأردنيين في المستقبل مزيداً من الامتيازات كان ذلك نصراً أو على الأقل كنت أعتقد ذلك (...) بقي الآن أن نعرف ماذا كان يفهم من عبارة المستقبل؟. بعد قليل حصلت على فكرة عن الموضوع إذ أنهم أبلغوني رسمياً بأن سلاح الهندسة الملكي في الجيش العربي الأردني سوف يتولى قيادته ضباط عرب في العام 1985، كان ذلك مظهر الاختلاف الأول حول دور الضباط العرب في الجيش.
أما المظهر الثاني فكان دور الدفاع الاستراتيجي للبلاد، فإن للأردن أطول حدود مشتركة مع إسرائيل كانت تبلغ (650) كم.
ويقول جلالته "كنت أرى أنه علينا في حال نشوب حرب أن نؤمن دفاعنا على طول الحدود وأن نصمد مهما كلف الأمر حتى الموت، لقد فكرت أنه من الوهم ان لم يكن من باب الانتحار أن نحدد هدفا لجيشنا – الدفاع عن سائر حدودنا وأن نقاتل قتالاً دفاعياً فقط ، لأن قوة صغيرة كقواتنا لا تستطيع أن تدافع عن حدود طويلة كحدودنا ... لذلك قررنا أن نؤمن التدريب العسكري لجزء من السكان المدنيين أسميناهم في البداية حرس الحدود ثم الحرس الوطني ، أما مهمتهم فتقوم على الدفاع عن الحدود لكي تتيح للجيش الأكثر تدريباً – وتجهيزاً في حالة قيام العدوان – توجيه ضرباته في نقاط محددة ..... فقط كنت من أنصار الرد الفوري أي أنه كلما ارتكب الإسرائيليون عدواناً ، توجب علينا أن نضرب هدفاً مختاراً في الجانب الأخر. أمام هذا النقاش كان الفريق كلوب يواصل النهج بمراعاة الحذر وكان يحبذ تراجع قواتنا إلى الضفة الشرقية في حال قيام هجوم إسرائيلي ريثما تأتي الإمدادات لشن هجوم معاكس مع الأخذ بعين الاعتبار النقص الحاد في الذخيرة، ورفضت بريطانيا حينها تزويد الأردن بمزيد من السلاح حسب الاتفاق بين الدولتين، واستمرت المشاكل تتراكم على مر الشهور بين جلالته والفريق كلوب حتى أصدر جلالته قراره الجريء بإنهاء خدمات كلوب في الأول من آذار (مارس) عام 1956 بعقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء.
ويقول جلالته: "منذ تسلم سلطاتي الدستورية وأنا أحاول أن أصحح الأوضاع قدر المستطاع بشكل يتفق وكرامة الأردن وعزته ولكنني لم ألمس أثراً لجميع محاولاتي ، ولهذا فلم أجد بديلاً من تنفيذ رغبتي هذه فوراً".
وفي الساعة الثانية والنصف ظهراً اتخذ مجلس الوزراء قراره بتنفيذ الرغبة الملكية السامية بإنهاء خدمات الفريق كلوب وترفيع الزعيم راضي عناب لرتبة لواء وتعيينه رئيس أركان حرب الجيش العربي الأردني وإنهاء خدمات القائمقام باتريك كوجهل مدير الاستخبارات والزعيم هاثون مدير العمليات العسكرية.
ردود الفعل على قرار التعريب
1. بعد أن سمع الشعب الأردني قرار جلالته هلل وكبر في جميع محافظات وألوية المملكة وانطلق إلى الشوارع مبتهجاً يهتف بحياة جلالته، وفي صباح اليوم الثاني انطلقت جموع المواطنين إلى مدينة عمان وهي تنشد الأغاني الوطنية واتجهت إلى قصر بسمان حيث استقبلهم جلالته مرحباً فيهم وألقى فيهم كلمة قال فيها "أرحب بكم في بيتكم ومحلكم هذا وأهنئكم بجيشكم العربي، لقد وفقنا الله والأمر له... ان الأردن جزء من الأمة العربية ... وسنعمل مع المجموعة العربية صفاً واحداً ويداً واحدة لمواجهة الأخطار التي تهدد البلاد العربية ولا سيما الخطر الصهيوني ....".
2. جريدة ايفننج استاندرد الإنجليزية. قالت: إن طرد كلوب جاء ذروة من الخزي والذل للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط إذ لم يعد لبريطانيا اليوم دولة حليفة واحدة بين الدول العربية.
3. في أميركا قال الرئيس ايزنهاور لجلالة الملك الحسين: "إنك بطل والبطولة ليست ملك شعبك بل هي للعالم".
4. في الاتحاد السوفييتي وصفت جريدة البرافدا السوفييتية نبأ عزل كلوب بأنه انتصار كبير للشعب الأردني في نضاله من أجل التحرر من السيطرة (مارس) الأجنبية.
5. جريدة الجمهورية المصرية الصادرة بتاريخ 4 آذار (مارس) 1956 نشرت مقالاً بعنوان "سلمت يداك يا حسين" وهي عبارة قالها الرئيس عبدالناصر عندما سمع النبأ.
أثر التعريب في السياسة الخارجية
لقد فتح قرار التعريب باب سلسلة من الأحداث المهمة جرت بنفس العام وكأن العرب كانوا ينتظرون مثل هذا القرار الجبار بفارغ الصبر .
1. في الثاني عشر من آذار (مارس) 1956 بعث رؤساء دول السعودية ومصر وسورية رسالة مشتركة إلى جلالة الملك الحسين يؤكدون فيها استعداد دولهم تقديم معونة مادية للأردن بدلاً من المعونة البريطانية.
2. في أوائل شهر نيسان (ابريل) 1956 زار جلالته دمشق تلبية لدعوة من الرئيس شكري القوتلي فاستقبل استقبالاً منقطع النظير في سورية، وتضمن البيان المشترك بعد المحادثات إتفاق سورية والأردن على تنسيق خطط الدفاع والتعاون العسكري بينهما وعلى عدم الانضمام إلى أية أحلاف. 3. قام الرئيس شكري القوتلي بزيارة إلى الأردن في أواخر شهر أيار (مايو) 1956 رداً على زيارة جلالته صدر على أثرها بيان مشترك جاء فيه: "إقرار اتفاقية عسكرية لمواجهة الخطر اليهودي ورفع درجة التمثيل الدبلوماسي إلى رتبة سفير، وإقرار مبادئ الوحدة الاقتصادية والجمركية بين البلدين..... الخ.
4. قام جلالته بإيفاد البعثات العسكرية إلى جميع البلاد العربية المجاورة سعياً منه إلى عقد اتفاقيات لتوثيق التعاون العسكري بين الأردن وتلك الدول وكانت نتيجة هذه المساعي عقد اتفاقيات عسكرية مع لبنان والعراق، السعودية، مصر.
آثار التعريب الاجتماعية
لقد كان لهذا القرار اثار ايجابية على المجتمعين الأردني والعربي من أهمها:
1. إعادة الهيبة للجيش العربي فقد أصبح له مكانة قومية مرموقة بين جيوش الأمة العربية حيث أصبحت القيادات العربية تنسق معه وتفيد من خبراته، وأصبح يضم بين صفوفه متدربين موفودين من الأقطار العربية في مختلف الدورات التأسيسية والمتقدمة وكلية الأركان، كما قامت بعثات متعددة من الجيش العربي بتدريب أعداد كبيرة من جيوش الدول العربية.
2. التغير الاجتماعي: لقد لعب الجيش دوراً مهماً في هذه العملية حيث ساهم في تنفيذ الخطط التنموية مثل بناء المدارس وشق الطرق والسدود وإقامة المشروعات التنموية المختلفة وتطوير القرى والبوادي ولقد لعب الجيش دوراً كبيراً في عملية التحول الاجتماعي التي مرت بها المملكة. 3. دور جلالة الملك الحسين: لقد أصبح جلالته طيب الله ثراه رمزاً وطنياً وقومياً يحتذى بالحكمة والإيمان والشجاعة على مستوى الأمة العربية والإسلامية.
أهمية قرار التعريب
1. لقد كان قرار جلالته بمثابة روح جديدة في جسم الأمة وبداية خير لعمل دؤوب شاق اختطه جلالته لنفسه منذ أن حمل أمانة المسؤولية فأولى هذا الجيش جل عنايته ورعاه بالتحديث والتطوير وجعل من الوطن الأردني واحة للأمان والاستقرار وموئلاً لإحرار العرب وموطناً للأنصار والمهاجرين.
2. لم يكن قرار التعريب مجرد واقعة تاريخية معزولة عن مقدماتها الطبيعية ولا صلة لها بالتطورات التي حدثت بعدها على عكس ذلك كان هذا القرار خاتمة مشرفة لكل تلك النضالات وتتويجاً لكل التضحيات التي بذلها جيل القادة المؤسسين.
3. كان هذا القرار إيذاناً ببدء مرحلة جديدة دفعت المخلصين الأوفياء من الأمة العربية إلى الاقتداء بهذا العمل الجبار حيث فتح الطريق أمام قرارات حاسمة قومية مكنت الأمة من شق طريقها نحو التحرر والخلاص من التبعية. في ظلال هذه المناسبة الخالدة بقي أن نقول نحب الجيش ونعشقه لأنه درع الوطن وسياجه المنيع، لأنه مؤسسة للمبادئ والقيم ، ومصنعاً للرجولة والشهامة والتضحية والفداء، لأنه مدرسة متميزة للعلم والمعرفة والثقافة، لأنه المساهم الأكبر في تنمية الأردن منذ التأسيس وحامي المنجزات، نعشقه لأنه يمنحنا الأمن والأمان لنمارس حرية الفكر وحرية العبادة، وحرية التعلم، وحرية الاستثمار، نعشقه لأنه يعلمنا الإخلاص والمواطنة المسؤولة والأمانة والصدق والحس المرهف بالمسؤولية ، نعشقه لأنه يمنحنا فرصة التواصل مع العالم المحيط بنا والمشاركة في إدارة أزماته والتشرف بالعمل الإنساني وتضميد الجراح النازفة في بعض بقاع الأرض، نعشقه لأنه يمنحنا أداء فريضة الرباط في سبيل الله وفرصة الشهادة، نحبه ونتدافع للانتساب إليه لأنه الجيش المصطفوي. وفي الختام نعاهد جلالة القائد الأعلى الملك عبدالله الثاني بن الحسين أن نظل على الدوام قرة عينه وقرة عين المواطنين، نعاهده أن يرانا كيفما يحب على درجة متميزة من الاحتراف والإخلاص والتضحية والفداء والخلق الأنقى والرجال الرجال الأوفياء. وندعو الله عز وجل أن يديم علينا نعمة القيادة الهاشمية الحكيمة بقيادة عميد آل البيت الأطهار جلالة القائد الأعلى الملك عبدالله بن الحسين ونعمة الأمن والاستقرار ونعمة النصرة لكل عربي ومسلم وإنسان مضطر في هذا العالم . إنه سميع مجيب الدعوات.
* إعداد مديرية التوجيه المعنوي - القوات المسلحة الأردنية