تنهمر الولائم السياسية على رؤوسنا ، فمن وليمة الى وليمة ، ومن مُعسكر الى مُعسكر ، ويتم تشريب المنسف بالملوخية ، في اطار اللوبيات السياسية ، والحشودات ، في عمان اعانها الله على ما ترى وتسمع.
لست ضد الدعوات من حيث المبدأ ، وانا ككل الناس احد الذين يدعون الاخرين ، ويقومون احيانا بتلبية الدعوات. ما هو لافت للانتباه حقا هو تحول هذه الولائم الى وسائل تحشيد سياسي ، مؤخرا ، والولائم في الاردن نوعان. ولائم للعاملين وولائم للمتقاعدين. والغائب الوحيد هو الشعب الذي تنحصر مهمته بتأمين الجميد عبر مهمة شاقة تستمر عاما ، حتى يتم مرسه في نهاية المطاف ، على مائدة هذا او ذاك ، ولو حسبنا كُلف المناسف التي يتم هدرها كل يوم وكل اسبوع ، لعلمنا مئات الطلبة في البلد ، في احسن الجامعات ، ولعالجنا مئات الاطفال ان لم يكثر.
سيأتي مُشاغب من هنا او هناك ليقول كالعادة انك على ما يبدو لم تُدع لهذه الدعوة او تلك فتشن غضبك على الولائم السياسية. الكلام غير منطقي. القضية ليست شخصية. ادارة الحوار عبر المنسف وتثبيت التحالفات والمعسكرات عبر الطعام امر مؤسف ، ويشعر المرء احيانا ان "اشعب" لم يغب عن حياتنا ، فهناك اشعب على كل مائدة ، واشعب في كل دعوة ، واشعب تحت كل طاولة ، واشعب داخل كل دلة قهوة سادة ، وحين ترى مشاكل البلد وفقره ، وأنين شعبنا في كل مكان ، تعرف ان هذه الولائم السياسية ، تتقصد في شكلها القفز عن مشاعر الناس ، خصوصا ، انها لن تكون ولائم خبز محمص بالزيت والزعتر ، على طريقة حفلات التنظيمات اليسارية في الجامعة ، التي كانت تقيمها دعما لصندوق هذه الجبهة ، او موازنة تلك المجموعة ، وكنا نحضرها ببلاهة بحثا عن رفيقة مناضلة في اغلب الاحيان ، في سنين العبث والضياع.
لا نحرم علية القوم ، من تناول الغداء والعشاء. فليباركهم الله. وليست تلك ضيقة عين ولا حسدا. المبدأ الذي يقول اننا نستجلب نماذج عربية الى بلدنا على الصعيد الاجتماعي ، بحيث يُصبح لدينا طبقتان امر سيئ جدا. طبقة الآكلين وطبقة من يغسلون ايدي الآكلين بعد الطعام. طبقة من يتذوقون اللحم البلدي والسمن البلقاوي والجميد الكركي ، وطبقة من يعضون شفاههم قهرا. سياسيا فان الوجه الاهم هو استمرار الحشودات في عمان ، والولائم هنا عناوين سياسية لمجموعات ، تتحالف او على وشك ان تتحالف ، على اساس مبدأ شهير يقول "أطعم الفم تستحي العين" ولا ريب ان الولائم من كل الاتجاهات ، والميول ، ما بين من هو مُصّفق ، او معارض ، وما بين من هو من اليمين مرورا بالوسط الى اقصى درجات الحربائية السياسية.
السياسيون العاملون والمتقاعدون ، عليهم ان يجلسوا في بيوتهم ، او ينشغلوا بأعمالهم ، وهذه الثقافة يجب ان تزول ، ثقافة المناسف وحشد ارباع ارجال وانصافهم حول المنسف ، لا يحمي وطنا ، ولا يُديم علاقات ، ولا يُغطي الشمس بغربال ، ولعل السؤال الذي كنت اسأله لنفسي في دعوات كثيرة كنت احضرها ، هل نتذكر فقراء البلد ونحن نعانق جبال الارز واللحم ، وهل هذه حملات علاقات عامة تليق بأي محترم ، يتم اللجوء الى استقطابه عبر المعدة ، بدلا من العقل ، ثم ما هي الرسالة التي يتم ايصالها للناس في هكذا ظروف ينوء فيها اهلنا بأحمال ثقال. وصلت الى نتيجة واحدة. من يحترم نفسه عليه ان لا يذهب الى اي وليمة سياسية ، وان يجلس المرء متفرجا على هذه الملهاة ، التي عنوانها القصعة والثريد.
للسياسيين في الاردن - عاملين ومتقاعدين - "المناسف".. ولشعبنا في قراه وبواديه ومدنه "الملوخية" ، وحتى نفهم سر البعد والتباعد بين طبقتين اي الشعب والكبار ، فان علينا ان نفهم سر استحالة تشريب المنسف بالملوخية الخضراء.
رحم الله جدتي: فقد رحلت وهي تحلم فقط بموسم "الحويرة" المقبل ، هذا اذا بقي لدينا اصلا من يعرف "الحويرة"،،.
mtair@addustour.com.jo