من دحية ذي قار الى دحية صناعة المستقبل
بقلم الدكتور : محمد فاروق المومني
كنت طفلا صغيرا عندما شاهدت الدحية لأول مرة في قريتي الصغيرة ، وكم كنت معجبا حينها بالحاشي وأداء صفّي الدحيحة وهما يتقاربان ويتباعدان بخفة وبراعة وسط ضجيج الأصوات والألحان والسحجة القوية والصراخ والأغاني ، التي بددت صمت المكان المعتاد ، وبدلت الأجواء الى فرح ومرح غير مألوف.
لم تكن الدحية رقصة فرح مبتكرة في بلادنا من وحي رقصات قرانا السعيدة ، وإنما كانت ولا زالت جزءا من التراث القومي وتاريخنا التليد منذ يوم (ذي قار) الذي انتصفت فيه القبائل العربية لأول مرة من طغيان كسرى، حيث زعم الرواة أن أجدادنا الأوائل عندما شاهدوا طلائع الجيش الفارسي الجرار وقد أحاطت بهم من كل حدب وصوب ، أصيبوا بالذعر والإرتباك على نحو راق لبعضهم فيه التصفيق والإنشاد على غير هدى دون إرادته، بينما لجأ البعض الآخر الى الزعيق والتقافز من موضع لآخر الى أن آل بهم الأمر الى إختراع سحجة ودحية عظيمة لأجل تشجيع بعضهم البعض على مواجهة الموقف .
أما القوات الفارسية التي أبصرت هذه الدحية المبتكرة الغريبة فإنها عجزت حينها عن فهم مايحدث ، وظن أفرادها أن العرب قد لجأوا الى سحر عظيم يستحضرون من خلاله كافة أشكال الأشباح والشياطين لأجل معاونتهم في المعركة ضدهم ، مما خلع عليهم رداء الخوف والرهبة من العرب وبدى عليهم قلقا شديدا وارتباكا لا مثيل له .
أما خصومهم العرب الذين تأثروا بالدحية فقد دبت فيهم الحماسة للإنقضاض على الجيش الفارسي لأجل الثأر والإنتقام منه وهكذا وقعت الواقعة التي هزم فيها هذا الجيش الأسطوري لأول مرة ، نتيجة مخاوفه من الأشباح والشياطين .
ومنذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا أصبحت الدحية تقليدا متبعا في الحروب ثم توارثتها الأجيال وأدخلت عليها مفاهيم جديدة وصنعت منها فنا وطربا عجيبا ، طالما استخدمته القبائل في الأعراس والمناسبات الكبرى وظلت موجودة وحاضرة حتى اليوم في الجزء الشمالي من جزيرة العرب والكويت والأردن وربما مناطق أخرى.
غير أن الجديد في الأمر أننا أصبحنا اليوم نشهد في بلادنا دحية عصرية متواصلة منذ أكثر من عام ، وهي جارية بين صفين متقابلين تحت عنوان محاربة الفساد وصنع المستقبل .
ورغم أن الصف الأول يلبس رداء الحكومة ويحمل سيفا وصولجانا مهيبا ويتباهى بالقوة ، بينما الصف الثاني تراه يلبس عباءة الشعب وقد لجأ الى سحجة كبرى وزعيق مستمر ، ومع ذلك فإن كلاهما يهاب الآخر ، ولا يدري أحد من سينتصر في نهاية المطاف هل هو الحكومة التي نعرف بطشها إذا جد الجد ، أو هو الشعب الذي قيل فيه أنه مصدر كل القوى والسلطات الثلاث أم هوالشيطان وأشباحه الحاضرين بكل دحية.