سألني مستنكراً بضيق واضح، وبالإنجليزية، ما معناه: "غِبْتُ أكثر من عشر سنين، وعدت وما يزال الناس هنا ينتظرون الباص الـ...؟!"، وأضاف إلى "الباص" شتيمة لا يَحسن ذكرُها.. ولم يكن صاحبي يقصد بالضبط تلك الصفوف الطويلة التي نعرفها من المنتظرين في مجمّعات الحافلات، ولا الواقفين على جوانب الشوارع في انتظار الركوب، وإنما ضرب بسؤاله الاستنكاري على عصب مشدود، وأثار سرباً من الشجون.
كان أول ما تذكرته بعد تساؤل صاحبي، رحلة في "الباص" من مجمع رغدان القديم إلى شارع الشهيد وصفي التل "الجاردنز". وقد استغرقت الرحلة، حرفياً، من "البلد، مروراً بمسارها الطويل، حوالي الساعتين. وتعرفون كم يتوقف "الباص" لينزل راكباً ويلتقط آخر، ويكون الواقفون فيه أكثر من الجالسين.. والفكرة؟ إننا إذا احتسبنا وقت انتظار "الباص" قبل ركوبه في رحلة الذهاب والعودة، مضافاً إليه زمن الرحلتين، فإن الحاصل سيكون حوالي 5 ساعات يومياً.
مَنْ ينكر أن هذا الوقت الطويل هو جزء محسوب من العمر أولاً، ومن عمر اليوم المخصوص ثانياً، وأنه يذهب هدراً وبلا أي ثمن فوق كل شيء. وبالنسبة لواحد مثل صاحبي، يتقاضى أجره حيث يقيم "على الساعة"، فإن الوقت "يفرق". والصحيح أن الوقت يجب أن "يفرق" في أي مكان، وهنا أيضاً، في عالم سريع الإيقاع حدّ الجنون. وبغير ذلك، نتخلف نحن "المنتظرين الباص" كثيراً، وتكثر عثراتنا ونحن نجدّ مُجهدين في إثر العالم الطائر.
أما الفكرة الثانية، الأكثر وجعاً من ضياع الوقت، فهي فكرة "الانتظار".. ولا أعني بالانتظار حالة فيزيائية متعلقة بـ"باص المؤسسة" المعروف، أو باصات "القطاع الخاص" الأصغر حجماً. إنني أعني أن ناسنا يبدون بشكل عام وأنهم في حالة انتظار مستمر لشيء يصل متأخراً، أو لا يعرفون متى يصل، أو أنه لا يصل.
إن "الباص"، أي باص، لا يأتي هنا في وقت محدد ومرسوم سلفاً ومرقوم على لوحة عند الموقف، وإنما "على البركة"، وأنت وحظك: قد تخرج من بيتك فيمرُّ بك "الباص" ويلتقطك سريعاً، وقد تنتظره طويلاً في الشمس أو تحت المطر.. لكنك يندر أن تبدأ يومك مرتاحاً إلى يقين ما بخصوص رحلتك اليومية..
تستدعي الفكرة كلها ذلك المشهد السوريالي والكابوسي في لوحة سلفادور دالي الشهيرة "إلحاح الذاكرة"، التي تتمدد فيها "الساعات" ممطوطة، ذائبة، رخوة، ومدلاة بكسل على غصن شجرة ناشفة أو سطح متحجر، ويأكل الدود إحداها بلا رحمة.
ومسألة انتظار الباص والساعات الرخوة كبيرة فعلاً، وتستحق ضيق صاحبي وأكثر.. إن "الساعات" هي أعمار الناس التي يقضمها دود الوقت.. وكسل الوقت وتمدده وإطالة انتظار "الباص"، تعني موات روح المجتمع وخفوت إيقاعه وانكساره، وعوزه لليقين، وغلبة الارتباك والدُّوار عليه. وهي كلها عوارضُ عُصاب نلتقط عدواه الفتاكة من الجو العام رغماً عنا. ولن أطرح هذه المرة سؤال التغيير: هل يأتي من الفرد أم من المجتمع، لأن الجواب واضح.. كيف يمكن لأي منا أن يتجنب عدوى كهذه بكل كمَّامات العالم؟ وهل يفيد إقفال باب المرء و"عزله" نفسه في الإفلات من عدوى العبث؟
إننا في حاجة حقيقية إلى أوراق الثواني والدقائق والساعات التي تتساقط من شجيرات أعمارنا، صفراء، تسفُّها الريح بلا ثمن.. ونحن في حاجة إلى الانخراط في حمأة إيقاع العالم المسرع الذي تدوس عجلاته الهائلة الدوّارة كل من لا يُحسن التعلق بالعربات.. وأتمنى أخيراً عودة صاحبي ليجد منتظري "الباص" الكثُر المتبطلين وقد أقلعوا وأفلتوا من فخاخ الوقت، وأن تكون "المؤسسة" (ضعوا ما تشاؤون من الخطوط تحت كلمة "المؤسسة")، قد خمّنت كيف يستطيع "باصها" أن يصل دائماً في وقته المرسوم.. أن يسَعَ ركّابه جالسين، ولا يتركنا فريسة يومية لوحش الانتظار!..