زاد الاردن الاخباري -
لم يكن امام رفاق الرحلة من خيارات سوى مواصلة الهبوط باتجاه الوادي, فالعودة من حيث أتوّا خيار لم يعد متاحا البته, ليس بسبب صعوبة تضاريس جبال محافظة الطفيلة ومدينة الشوبك المطلة على وادي عربة فقط, ولا لأن الامطار الغزيرة التي توقفت للتو عن الهطول, قد شكلت سيولا جارفة في القيعان والوديان وحولت متعة المشي في تلك المنطقة لعقوبة لا تخلو من اخطار, بل لان الظلمة قد ارخت سدولها بعد ان حجبت غيمة سكوب ضوء البدر عن المكان, وأحالت جمالياته - جماليات المكان - الى معيقات امام الراجلين, ما دفع سيدة استبد بها الذعر لترديد لازمة الامة العدو من امامكم, والبحر من خلفكم, وتنذر ان هي وصلت المقصد سالمة, ان تصلي ركعتين شكرا لوجه الله تعالى, وهو ما كان فعلا.
مضى على تلك الرحلة ثلاث سنوات, ولم يعد ما كان غرائبيا, وما امتزجت فيه متعة الاستكشاف مع الخشية من مواجهة خطر افتراضي يثير نفس المشاعر البكر, التي شعرتها منسقة الرحلة من الجمعية الملكية لحماية الطبيعة منى الطاق, فهي الآن اصبحت خبيرة بادق تفاصيل المنطقة, وقلما يخفى عليها خافية فيها, فمنذ تلك الرحلة المشهودة رافقت الطاق زوارا لبلدة فينان, ولنزلها البيئي المشهور اكثر من عشر مرات, صحيح انها لا زالت تشعر بقلبها يخفق بشدة, كلما وطأت قدماها ارض المكان, وبالكاد تستطيع مقاومة رغبة جارفة, تهيمن عليها بالاستلقاء في حضن الطبيعة الخلابة, والذهاب بعيدا في عوالم تنسجها مخيلتها, الا انها موضوعيا اخذت مرة تلو الاخرى تزيد من احكام سيطرتها على مشاعرها, فهي المنسقة ومعنية بمعالجة شطط مشاعر الآخرين, ان فلتت تلك المشاعر من عقالها من شدة افتتان اصحابها بسحر الطبيعة.
العودة الى البداية
رحلة الوصول الى بلدة فينان تجربة فريدة بامتياز, تشعرك بأنك تعود الى البداية - اي بداية -, او كالعودة الى الضيعة وفقا لوصف المهندسة الزراعية في وزارة البيئة السورية خلود حسن, التي التقتها العرب اليوم بنزل فينان حيث شاركت في مؤتمر سياحي بيئي عربي, او العودة الى ما قبل الثورة الصناعية وفقا لمدير محمية مدينة صور في لبنان حسن حمزة, الذي كان يشارك في نفس المؤتمر, ومع ان م.ز حسن شعرت بوحشة في المكان خاصة انها وصلته مع رفاقها المشاركين في المؤتمر ليلا, وكان نصف الطريق من مركز الاستقبال ببلدة القريقره المجاورة ل¯ فينان بدائية ونصفها الآخر غير معبدة, ما زاد من تحفز حواس رفاق الرحلة, وجاهزيتهم للتعامل مع مفردات البيئة معتمدين على ذواتهم من دون تدخل حضاري او حضريّ حسب قول حمزة, الا ان حسن وحمزة معا احبا المكان وشعرا بدفء عذب لمّا دخلا النزل, وأخذت ملامح الوجوه تظهر بالتدريج على ضوء شموع اضاءها العاملون في ارجاء النزل كافة, ففيه - في النزل - ليس للطاقة الكهربائية العادية مكان, فالاضاءة من الشموع, ومن طاقة اشعة الشمس تختزنها محطة توليد كهربائية من الطاقة الشمسية اقامتها الجمعية الملكية لحماية الطبيعة لخدمة النزل, وفقا لمدير عام النزل المستثمر في السياحة البيئية نبيل الترزي.
المكان بمثابة سيناريو متخيل لما قد تؤول اليه الحياة اذا ماحدث تدهور بيئي على الكرة الارضية جراء التغيرات المناخية وفقا لحمزة, او سيناريو خاص بالحياة التي كان الناس يحيونها بالماضي, حسب تعبير مدير محمية الشوف في لبنان كمال ابو عاصي, او العودة الى البدائية كما قالت الخبيرة في السياحة البيئية من سويسرا, يورسينو روج التي استعملت في وصف المكان كلمة Curious الانجليزية ما يعني ان المكان يدفعك لفضول البحث والمعرفة, وحب الاستطلاع والتعلم, بوصفه مكانا لافتا للنظر لغرابة مكوناته, او ان المكان يختزن قدسيه ما كما قالت مي عبيدو من الشبكة الاقليمية للسياحة البيئية في سورية, او انه مكان غير مألوف وفقا للخبير في السياحة البيئية من انجلترا انور - من اصول باكستانية -, المكان بشكل عام اجمل كثيرا من الصورة المتخيلة حسب تعبير مديرة مشروع حمى كفر زيد في البقاع اللبناني داليا الجوهري, ففيه بامكان المرء التخلص من سقط متاع الدنيا, والعودة الى الذات الاولى ساعات قليلة.
المجتمع المحلي
نزل فينان البيئي لا يبعد عن التجمعات السكانية سوى كيلو مترات قليلة, فمع ان ابرز المعايير الدولية لمشاريع السياحة البيئية الابتعاد قدر الامكان عن التدخل البشري في التفاصيل, وترك مكونات الطبيعة تتفاعل مع بعضها بعضا من دون تدخل بشري, الا ان من ابرز غايات الجمعية الملكية لحماية الطبيعة, بوصفها مالكة النزل وتدير محمية ضانا, التي تمتد ارضها من ضانا في جبال الطفيلة هبوطا الى ما بعد النزل بمئات الامتار, ادماج المجتمع المحلي في دورة انتاج عبر مشاريع مقترحة, تكون رفيقة للبيئة من جهة, وتدر دخلا للسكان من جهة اخرى حسب مدير عام الجمعية يحيى خالد, وهو ما حدث فعلا بخصوص مشروع نزل فينان, صحيح ان الجمعية تخلت عن ادارته قبل اشهر قليلة لصالح شركة خاصة, الا ان اهم شروط العقد مع الشركة الخاصة التي اخذت تدير المكان مؤخرا خدمة المجتمع المحلي, والتفاعل مع مفرداته بما يحقق مفهوم التنمية الشاملة في الاستثمارات السياحية البيئية.
يعمل في النزل وفقا لمدير الخدمات فيه حسين العمارين 16 موظفا, كلهم من ابناء المنطقة, اضافة الى سيدتين من المنطقة تعملان في مشغل لانتاج الشموع لاضاءة المكان, وثماني نساء اخريات يعملن في انتاج مشغولات يدوية لعرضها في النزل امام الزوار, وعلاقة السكان بالنزل وزواره لا تقتصر فقط على العاملين فيه, فاكثر من 40 مركبة من ذوات الدفع الرباعي, يمتلكها افراد من سكان المنطقة تعمل على نقل الزوار من مركز الاستقبال الى النزل وبالعكس, ومن النزل الى ضانا ومناطق اخرى وبالعكس, ويسكن التجمعات السكانية الثلاثة فينان والقريقره و الرشايدة ما يزيد على ستة آلاف نسمة, يتوزعون على عشائر مختلفة, يعمل معظمهم في الزراعة, وفي تربية الاغنام, وبشكل عام فان اوضاعهم المعيشية غير جيدة وفقا لمواطنين التقتهم العرب اليوم في الطريق, فحسب سالم العزامي البالغ من العمر 48 سنة اصبحت الحياة صعبة وما يدخل عليه من عمله في تربية الاغنام بالكاد يوفر ثمن الخبز والسكر والشاي, فهو وشاكلته من المقيمين ببيوت الشعر في المنطقة - ما يزيد على 35 بيت شعر في محيط النزل - يعيشون حياة الكفاف, ولا يستطيع الواحد منهم تدبر قوت يومه, فباستثناء ما يصلهم من مساعدات من مكرمات الملك عبدالله الثاني, لم تصلهم اية جهة حكومية او غيرها ورغم انه وغيره ولدوا في نفس المكان, ولا يعرفون مالكا للاراضي حولهم غيرهم, الا انه وغيره من افراد اسرته, وافراد اسر اخرى بدوية تعيش في بيوت الشعر بالمنطقة لم يناموا ليلة واحدة تحت سقف بيت اسمنتي في حياتهم قط.
مسارات
صالحة الغريب جامعية, متخصصة في الاثار والسياحة, تعمل في النزل دليلا بيئيا محليا, تتمنى ان تتاح لها الفرصة للعمل في مشاريع البحث عن الاثار, فمع ان العمل بالحفريات للبحث عن الاثار مضن, وله سلبيات جمه, الا انها تعشق هذا النوع من الاعمال, لكن ما باليد حيلة, فاذا لم تجد ما تحب, فاحبب ما تجد بهذه الكلمات بدأت الغريب حديثها عن المسارات التي يسلكها زائرو المكان, وهي اكثر من مسار, وفي كل واحد تفاصيل خصبة اولها هو طريق نمّلة, حيث ينطلق الراجلون من القريقرة بطريق متعرجة بين الجبال, لمشاهدة مناظر طبيعية بديعة, والمسار الثاني من النزل الى مناجم النحاس, والكنيسة البيزنطية والثالث من النزل الى قرية المنصورة في الشوبك عبر وادي الغوير وفي هذا المسار يقع وادي النخيل, حيث يوجد سيق يمتد الى عشرة كيلو مترات, ومسار خامس على الدراجات اليدوية, وهو مسار حر, اي بامكان الزوار اتخاذ اي اتجاه يرغبون.
مملكة فينان
ل¯ فينان البلدة حكاية اخرى, ففي المنطقة وفقا لاستاذ السياحة البيئية والتراث الطبيعي في الجامعة الهاشمية الاستاذ الدكتور احمد ملاعبة قامت حضارات قديمة, والاثار القائمة, خاصة مناجم النحاس التاريخية, التي يتجاوز عددها المكتشف 400 منجم خير شاهد على تلك الحضارات, و فينان تقع في السهل الممتد الملاصق لجبال الصخور البركانية العالية وهي من نوع رويو لايت Rhyolite وهي كلمة اغريقية تعني الدم, او اللون الاحمر, فالجبال تظهر للرائين باللون الاحمر المائل الى البني الغامق, واما الرمال في السهل الممتد امام هامات الجبال الشاهقة, فان الوانه الارجوانية والذهبية والصفراء صنعت منه بانوراما غاية في الجمال, وكأنها بتراء مستلقية على الارض في لوحة تشكيلية قل نظيرها, استغلها - استغل الرمال - الاهالي في الزراعة, نظرا لتدفق المياه بكثافة من الجبال, فزرعوا عبر التاريخ البطيخ والشمام والبندورة, وغيرها من الخضراوات.
خربة فينان مبنية من الحجر الرملي, خلافا لغيرها من الخرب في الاردن والخربة بقايا مملكة فينانالتي تأسست في العصر النحاسي في الفترة الواقعة ما بين 4000-3500 ق.م خلافا لما تدعيه جهات صهيونية ترى ان مملكة فينان هي مملكة يهودية, لجهة وجود مناجم النحاس فيها ولان الملك سليمان ارتبط بالنحاس في معجزته كما ورد في القرآن الكريم فان الصهاينة يدعون ان فينان يهودية وهذا غير صحيح, بدليل ان اليهود جاءوا في العصر الحديدي, اي بحدود 1200 ق.م, والعصر النحاسي الذي تأسست فيه مملكة فينان اقدم من الديانة اليهودية باكثر من الفي عام على اقل تقدير وفقا للملاعبة.
يعتقد الملاعبة ان مملكة فينان تأسست من اجداد العرب, فمنهم جاء الانباط لاحقا, ومن المفارقات العجيبة حسب الموروث الشعبي ان مملكة فينان كانت تتبادل التجارة مع مملكة الكرنب او مملكة الحظيرة في الجهة الغربية المقابلة ل¯ فينان اي في النقب, فمن فينان كانت قوافل الجمال تحمل البطيخ ذا المذاق المميز الى الكرنب وتعود محملة بالحرير وغيره من مملكة الكرنب وتقول الاسطورة ان احدى القوافل حملت بطيخا فاسدا, وحينما عادت الجمال لاحظ ثلاثة من ابناء مملكة فينان كانوا يراقبون الطريق من على جبال سميت باسمائهم, هم خالد - جبل خالد, وحُسن, وفاطمة, ان اطراف الجمال تغوص في الرمال اكثر من المعتاد, ما يعني ان الصناديق المحملة على ظهور الجمال لا تحمل قماشا وديباجا خفيف الوزن, بل اشياء ثقيلة, تبين لاحقا انها تحمل جنودا, جرت معهم معركة اطلقت عليها الاسطورة معركة البطيخ, وللعلم فان بطيخ فينان لا زال مميزا, وطعمه لذيذ.
العرب اليوم - محمد ابو عريضة