المعلم أولا
بقلم: د. آية عبد الله الأسمر
لن يصبح الوطن أولا إلا عندما تغدو أهم ركائزه في طليعة قائمة أولويات الإصلاح، ولا يختلف اثنان معنيان بمصلحة الوطن وصالح أبنائه على أن المؤسسة التعليمية هي أهم الأسس التي يقوم عليها بناء الأوطان والأمم، وبناء عليه لا يمكننا في خضم الحديث عن الوطن والإصلاح والفساد والربيع ومستقبل الأجيال، أن نتجاهل ما يحدث على الساحة المحلية من توتر بين المؤسسة التعليمية من جهة والحكومة من جهة أخرى، وصل في حدته إلى نقاط حرجة تقف على حافة الصراع.
الرأي العام عموما منقسم على نفسه بين مؤيد لإضراب المعلمين ورافض ومستنكر له، المعلمون يطالبون بتحسين مستواهم الاقتصادي ورفع رواتبهم، والحكومة بعد أن نفدت ذخيرتها من حقن التخدير وكبسولات المهدئات راحت تهدد باستبدالهم وتعلن بصراحة عن رفضها لمطالبهم، وزملاء المهنة من معلمين ومعلمات متقاعدين ومتقاعدات اختلفوا في توجهاتهم بين مؤيد للإضراب ومساند لمطالب زملائه، وبين رافض لمبدأ الإضراب ومستعد للتطوع والعمل بدلا عن المضربين.
من الطبيعي أن يرفض أولياء أمور الطلبة مبدأ الإضراب نتيجة للضرر الواقع على أبنائهم من جراء انقطاعهم عن الدراسة، ومن الطبيعي أيضا أن يتنفس بعض الطلبة الصعداء نتيجة حصولهم على إجازة مفتوحة، بينما يستاء قسم آخر من الطلبة من هذا التشويش والتخبط الذي سيضر في نهاية المطاف بمسيرتهم العلمية التعليمية.
أمام هذه المعطيات أقف –كالعادة- عاجزة عن فهم رموز المعادلة الوطنية من الناحية الحكومية، والتي ترفض مطالب مشروعة للمعلمين في علاوات يستحقونها بحجة عجز الميزانية المزمن، بل وأعجز عن فهم عجز الميزانية المتراكم والمتفاقم منذ أن ولدت وحتى اليوم، مقابل صفقات مشبوهة وملفات فساد مفتوحة، وقضايا مالية واضحة في ذمم العديد من المسؤولين، ومقدرات وطن تباع وتنهب ومنح خارجية تصرف، وملايين غير مشروعة تجول في أروقة المصارف والبنوك، ثم ترفض الحكومة علاوة بناة الوطن وحاملي مشاعله ومربي أجياله ومنارات أبنائه ورسل كرامته بحجة عجز الميزانية.
ربما أتفق مع تصريحات رئيس الوزراء بعدم وجود مبرر يحرم التلاميذ من حقهم في التعليم، إلا أنني لا أرى مبررا يحرم المعلمين بل وكل المواطنين من حقهم في حياة كريمة ومرفهة كذلك، دون أن تضطرهم الأوضاع الاقتصادية المتردية باستمرار بسبب الفساد المستشري في مفاصل الدولة، من اللجوء إلى العنف أو الإضراب أو التظاهر حينا أو الانغماس في أكثر من عمل في وقت واحد حينا آخر، أو الانجراف وراء طرق الربح غير المشروعة أحيانا أخرى، وأعتقد أن الأحداث المحلية والإقليمية والدولية تفرض على الحكومة الآن أن تتعاطى مع مطالب المعلمين وملف وزارة التربية والتعليم عموما، بشكل حضاري وديمقراطي ومنطقي وعقلاني وذكي، بعيدا عن الأساليب الأمنية والبوليسية والمخابراتية التي تحكمت في أوصال الأمة العربية برمتها منذ قرون، فالأوضاع في الأردن تتدهور تدريجيا ولكن بسرعة لافتة نتيجة نزوع كل متضرر أو "متضايق" إلى مقايضة الدولة، وتهديدها عبر المظاهرات أو الإضراب أو إحراق النفس أو قطع الطرق!
إضراب ثمانين ألف معلم عن أداء واجبهم الوطني والمهني هو مأساة وطنية وتعليمية نحن وأبناؤنا أولى ضحاياها، ولكن وضعهم الاقتصادي المهين هو أيضا مأساة إنسانية ووطنية نحن وأبناؤنا أيضا ندفع ثمنها، ذلك أننا لا نستطيع أن نطالب المعلم بأداء واجبه وممارسة مهنته والاستمرار بوظيفته، وهو عاجز عن أداء واجباته تجاه أسرته، وعاجز عن ممارسة حقه في الحياة بكرامة، وعاجز عن الاستمرار في وظيفته دون أن يلجأ إلى الطرق الملتوية أو المهينة في سبيل توفير لقمة العيش له ولمن يعيلهم، في دولة تعد عاصمتها أغلى مدينة عربية في المنطقة.