ما زلت أذكر تلك الأيام الجميلة التي بدأت أتعرف فيها على نقابتي فور تخرجي من الجامعة، وأنا أتطلع بشغف معلّق بقلب طبيبة جديدة ترى في العمل النقابي التطوعي عبقا خاصا ووهجا مختلفا ومذاقا شهيا، لا ينوء بحمل أعبائه إلا أولئك الذين تصدوا بأوقاتهم وجهدهم وقلوبهم وإخلاصهم وحبهم لخدمة مهنتهم وزملاء المهنة، في سبيل هدف واحد نبيل وغاية عليا سامية تفوق كل الاعتبارات وتتفوّق على كل الحسابات الخاصة والمصالح الشخصية والاتجاهات السياسية.
شتان ما بين الأمس واليوم فاليوم تواجه نقابتنا موجة عاتية من الخلافات الحادة والتي أتمنى أن لا تجهز بضراوتها على مكتسبات ومنجزات الأعوام والعقود الماضية، فنقابة أطباء الأسنان الأردنيين أول نقابة مهنية تأسست في المملكة الأردنية الهاشمية منذ ال 1954، ومن المؤلم أن نتابع اليوم تفاصيل خلافات أشقاء الأمس ورفاق الكفاح الذين قامت النقابة على أكتافهم وكبرت بهم.
العمل النقابي هو عمل تطوعي يرمي إلى الارتقاء بالمهنة من جميع النواحي العلمية والنظرية والتطبيقية والخدماتية، بحيث توفر النقابة لطبيب الأسنان مرجعية مهنية ثابتة تخدمه مهنيا وعلميا وإنسانيا، كما تؤمّن لمتلقي الخدمة السنية حقه في الحصول على خدمة جيدة بمواصفات عالية خالية من الاستهتار والاستغلال والاستثمار والاتجار بالعلم وبالطب، علاوة على هذا وذاك فهي الضابط المسؤول والمنظم الرئيسي للمهنة على الصعيد العلمي والعملي وعلى الصعيد الإنساني والاجتماعي ما بين حوالي 6500 طبيب أسنان في أنحاء المملكة.
ما يقوم به إخواننا وأخواتنا وزملاؤنا وزميلاتنا في النقابة من نقباء متتاليين وأعضاء مجالس على مدار السنوات المتعاقبة ورؤساء لجان ونقابيون وأعضاء، منذ أن تأسست النقابة وحتى يومنا هذا من أعمال مضنية وجهود حثيثة وإنجازات باهرة ومنجزات رائدة لهو مفخرة لكل طبيب أسنان في المملكة، ونحن نعي تماما أن هكذا مسيرة طويلة شاقة تمر حتما ببعض الزوابع والعثرات، وتواجه بالتأكيد عراقيل وصعوبات وتحدث خلالها الأخطاء والسقطات، إلا أن هذا لا يجبّ ما قبله ولا ينتقص من قدر وأمانة كل الجهود المبذولة بصدق من قبل القائمين على العمل النقابي في سبيل مواصلة المسيرة والتطور، كما أنه لا يعني بأي شكل من الأشكال وبأي حال من الأحوال أن نتخلى عن كل تلك المكتسبات التي حققتها النقابة على مدى الأعوام السابقة أمام خلافات قد تحدث في أي نقابة أو اتحاد أو جمعية.
وعليه فإنني أناشد جميع النقابيين المهتمين بالعمل النقابي في نقابة أطباء الأسنان، وطرفي النزاع أو أطراف النزاع في مجلس نقابتنا وجميع أطباء الأسنان القدامى منهم والجدد، بأن يعملوا على حل هذه الخلافات التي وإن بدت في ظاهرها قوية وعميقة إلا أنها في جوهرها أضعف وأسخف من أن تتصدر قائمة أولوياتنا كأطباء أسنان ونقابيين، وأذكّر هنا جميع الأطراف أن نقابتنا ليست حزبا سياسيا أو تجمعا عشائريا أو ناديا رياضيا نشجع فيه فريقا على فريق، بل هي نقابة مهنية تغلب فيها المصلحة المهنية العليا على كل المصالح الشخصية الأخرى، ويعلو فيها صوت المهنة على أصوات الاتجاهات والتيارات والمعتقدات السياسية أو الدينية أو الحزبية.
نترقب اليوم بخوف وحذر ما ستسفر عنه الخلافات التي تزداد حدة يوما تلو الآخر ما بين أعضاء مجلس النقابة، وما ترتب على هذه الخلافات من تعطيل لأعمال النقابة ونشاطاتها وعرقلة لمسيرتها وإنجازاتها وشلل لحركتها وبرامجها وبعثرة لجهودها وصفوفها، فالنقابة أمانة وضعها آلاف أطباء الأسنان في أعناق اعتقدوا وما زالوا يعتقدون بجدارتها وقدرتها على حفظ الأمانة وصيانتها، إيمانا منهم بأنكم كنقابيين تعملون للمصلحة العامة المشتركة وليس لصالح أفراد بعينهم أو جهات محددة، وبأنكم كنقابيين تجمعكم على طاولة الاجتماعات هموم وآمال ومصالح آلاف الأطباء قبل أن تفرقكم وجهات النظر المتصلبة والآراء المتعنتة، وبأنكم كنقابيين مخضرمين في العمل المهني بحرفية وتقنية وكفاءة عالية لا تليق بها أن تتقطع بكم كافة سبل الحوار والتفاهم والتواصل، وبأنكم كنقابيين أنبل شأنا وأرفع قدرا وأرقى فكرا من أن تتخذوا من النقابة وكرا لتصفية حسابات قديمة أو حياكة مكائد يتربص بها أحدكم بالآخر.
نحن كمواطنين أولا وكأطباء ثانيا وكنقابيين ثالثا من واجبنا أن نتوّج مصلحة الوطن على عرش أولوياتنا، ومصلحة الوطن تؤمّنها مهنة كريمة نبيلة تديرها وتنظمها وتحافظ عليها نقابة مهنية جادة ومخلصة وأمينة.
نتمنى من جميع النقابيين أصحاب العلاقة في نقابة أطباء الأسنان أن يعودوا إلى مائدة الحوار والتفاهم والخطاب العملي المهني الحرفي الجاد، والله من وراء القصد.