في ظلال احتفالات المولد النبوي
تعلق المسلمين برسولهم وبآل بيته رافعة أساسية من روافع وحدتهم
رابطة العقيدة المرتكزة علي العقل أقوى وأشد تأثيراً من رابطة الدم
الأنظمة المستبدة تخاف من وعي الشعوب ووحدتها
المسلمون يَعوُن من هم عدوهم في الداخل والخارج
الفتن المذهبية آخر أسلحة العدو في مواجهة أمتنا
أمضيت الأسبوعين الماضيين, متنقلاً بين عدد من الدول والمدن الإسلامية. مشاركاً في إحياء ذكرى مولد رسول الله, عليه أفضل الصلاة والسلام. وهو الإحياء الذي أتخذ أشكالاً مختلفة: من الاحتفال الخطابي, إلى الندوة الفكرية, إلى المؤتمر العلمي المتخصص, وصولاً إلى المسيرة الجماهيرية الحاشدة.
ومثل تنوع أشكال إحياء ذكرى مولده عليه الصلاة والسلام, تنوعت كذلك ألوان السنّة وجنسيات المشاركين داخل كل واحدة من هذه الاحتفالات, التي اقيمت في الذكرى العطرة. وهذه واحدة من أسرار معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم, العابرة للأمكنة والأزمنة. مصداقاً لقوله تعالى: »ورفعنا لك ذكرك« وأنا أجزم انه ما من شخص في تاريخ البشرية يذكرآناء الليل, وأطراف النهار, وبكل اللغات والألسنة; كما يذكر عليه السلام, منذ بعثته إلى يوم الناس هذا, وصولاً إلى يوم الدين. مثلما أنه ما من شخص يتعلق به أتباعه ويحبونه ويجتمعون عليه, مثلما يتعلق المسلمون بنبيهم ورسوله, ويحبونه ويجتمعون عليه. ولم تغب بعد عن بال البشرية التظاهرات المليونية, التي عمت مدن العالم في السنوات الماضية غضباً على نشر الرسوم المسيئة له عليه السلام, في إحدى الصحف الدنماركية, والتي تمت إعادة نشرها في صحف غربية أخرى, مما أجج غضب المسلمين جراء الإساءة لقدسية نبيهم عليه السلام. رغم انهم يصمتون في كثير من الأحيان حتى عندما تمس كرامتهم الشخصية; لكن الأمر إذا تعلق بمحمد عليه السلام, فإن ردة الفعل عند المسلم تكون مختلفة.
هذا التعلق برسول الله عليه السلام, وبآله الطيبين الطاهرين, يجب أن يستثمر من علماء الأمة ومفكريها, للوصول إلى الهدف المعلن لكل المسلمين وهو تحقيق وحدتهم السياسية والثقافية والاجتماعية, باعتباره عليه السلام, مصدر إلهامهم وقدوتهم التي تُجسد قرآنهم في حياة عملية, تحتفظ أمهات الكتب بأدق تفصيلها. مما يتيح لأتباعه عليه السلام, ان يسعوا إلى الاقتداء بها وإحيائها في حياتهم. وهذا هو الاحتفاء الحقيقي الذي يجب أن يكون به عليه الصلاة والسلام. خاصة وان الدين الذي جاء به خاتماً للانبياء هو دين عمل وممارسة. لا دين قول وتنظير. وفي القرآن الكريم »كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون«.
ومثلما تشكل سيرة رسول الله عليه الصلاة وتعلق المسلمين به, وبآل بيته الطيبين الطاهرين رافعة حقيقية للوحدة الإسلامية, فإن مناشط إحياء المناسبات المتعلقة به عليه السلام, تكشف مجموعة كبيرة من روافع الوحدة الإسلامية. تستند في مجملها على تعلق المسلمين برسولهم وبالكتاب, الذي أوحي به إليه عليه الصلاة والسلام. فالمراقب لجموع المسلمين القادمة من مختلف أنحاء العالم وجنسياته وثقافاته وألوانه, للمشاركة في احتفالات المولد النبوي الشريف. والتي أتخذوا الكثير منها طابعاً عالمياً, والمصغي إلى أحاديهم الجانبية منها, والرسمية المعلنة, يكتشف انهم جميعاً يتحدثون بلسان واحد, ويعبرون عن مشاعر واحدة, ويتطلعون إلى أهداف واحدة; ويواجهون عدواً واحداً. فتعلق المسلمين برسولهم وقرآنهم خلق لديهم وحدة عجيبة في المشاعر والعواطف. ومن المعروف ان تأجج المشاعر والعواطف من أهم الأسباب التي تدفع المرء للتعلق بالهدف, والسعي لتحقيقه. مهما غلت التضحيات, وصولاً إلى الشهادة, وهي الموت المنتخب الذي يسعى إليه المسلم إرضاء لله ورسوله. واعتقد أن ارتباط مشاعر المسلمين وعواطفهم برسولهم, من أهم مبررات الدعوة لوحدتهم والسعي لتحقيقها. خاصة وأن هذه العواطف والمشاعر ترتكز إلى عقيدة قوية قائمة على العقل والاقتناع. فالإسلام هو دين العقل والاقتناع. ورابطة العقل أقوى وأشد تماسكاً وتأثيراً من رابطة الدم. فكيف إذا ارتبط العقل بعقيدة سماوية?.
إن تاريخ البشرية زاخر بالأدلة الدامغة على حقيقة تفوق رابطة العقل والعقيدة على رابطة الدم:
* فكم من والد وولده افترقا, بل واقتتلا عندما تفرقت بهم سبل القناعات العقلية التي تبنى عليها العقائد?.
* وكم من شقيق تبرأ من شقيقه وقاتله, لاختلاف طرائق التفكير والقناعات بينهما?.
* وكم من زوجين افترقا عندما اختلفا في القناعات?.
* وكم من شعوب اقتتلت فيما بينها, وانقسمت على نفسها عندما لم يكن هناك رابط فكري يجمعها?.
وكلها أدلة على أن الدم ليس رابطة أقوى من رابطة العقل والعقيدة, التي تربط المسلمين. وهذه رافعة أخرى من روافع وحدة المسلمين لا بد من تفعيلها لتحقيق هدف الوحدة.
لقد انتجت وحدة العواطف وحدة المشاعر المبنية على وحدة العقيدة عند المسلمين, وحدة في الطموحات والتطلعات. فالمسلمون, كل المسلمين يتطلعون إلى الخلاص من واقعهم المتخلف تقنياً, واجتماعياً, واقتصادياً وسياسياً. والمسلمون كل المسلمين يتطلعون الى تحقيق وحدتهم. وهم في الآن نفسه يعرفون معرفة اليقين أسباب ما هم فيه من فرقة وتخلف وضعف وهوان. وهي أسباب داخلية تتعلق بانظمتهم السياسية التي تسعى إلى المزيد من تمزقهم وتخلفهم. لأن الأنظمة المستبدة تخاف من وحدة الشعوب ومن وعيها, ومن نهضتها. لأن ذلك كله يتناقض مع طبائع الاستبداد, التي تتصف بها هذه الأنظمة التي تسعى أيضاً إلى إبقاء المسلمين في حالة التخلف الاجتماعي والتربوي والاقتصادي حفاظاً على مصالحها.
ومثل وعيهم للأسباب الداخلية التي تحول دون وحدتهم, فإن المسلمين يَعوُن أيضاً الأسباب الخارجية التي لها نصيب الأسد من عوامل فرقتهم وتشتتهم. وأول ما يعيه المسلمون من هذه الأسباب وعيهم لمن هو عدوهم, وتحديد غالبيتهم الساحقة لهذا العدو, المتمثل أولاً بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وحلفائهما في الشرق والغرب. فالمسلمون يؤمنون بان الولايات المتحدة الأمريكية تحتل أرضهم احتلالاً مباشراً في كثير من أجزاء الجغرافيا الإسلامية, واحتلالاً غير مباشر في أجزاء أخرى من هذه الجغرافيا. وأهم من ذلك كله أنها تدعم المشروع الصهيوني المحتل لواحدة من أهم البقاع المقدسة بالنسبة للمسلمين, المهددة بهدم أولى قبلتيهم وثالث حرميهم, أعني فلسطين والمسجد الأقصى. وانها أي الولايات المتحدة الأمريكية وفي سبيل إبقاء سيطرتها على بلاد المسلمين, تصر على إثارة الفتن بين المسلمين, وآخر ذلك إصرارها على إثارة الفتن المذهبية بينهم. وتصر على إبقائهم في حالة التشتت, وفي دائرة الجهل التقني; وفي مربع التخلف الاجتماعي والاقتصادي, ناهبة لثرواتهم الاقتصادية, معطلة لقواهم البشرية, حتى لو بالقتل الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد المسلمين علانية في افغانستان والعراق والباكستان. وتمارسه سراً ضد علماء المسلمين كما حدث مع علماء إيران والعراق مؤخراً وقبل ذلك مع علماء مصر وغيرها.
هذه بعض أسباب فرقة المسلمين وتخلفهم وقد حددوها جيداً, مثلما حددوا الكثير من سبل خلاصهم, من هذا الذي يعانون منه تخلفاً وجهلاً وتشتتاً. لذلك بدأوا بالأخذ بأسباب الخلاص والنهوض, وفي مقدمتها هذه الروح المقاومة التي تسري في جسد الأمة, على شكل بقعٍ تكبر يوماً بعد يوم, عسكرياً وفكرياً واقتصادياً واجتماعياً. وهي بداية وعي لا بد من ان يشمل الأمة كلها, وسيتم ذلك, لكنه يحتاج إلى المزيد من العمل والتضحية والصبر والمصابرة. وكلها معانٍ يُجددها لنا إحياء ذكريات رسولنا عليه السلام; فلنتمسك بها ولنصر على إحيائها سبيلاً لإحياء أمتنا وإعادتها شهادة على الناس.