د. بسام البطوش
لو تأملنا مسيرة الحراك الشعبي والسياسي الأردني عبر سنة ويزيد لوجدنا أن الفكرة الأساسية التي تركزت عليها الشعارات تقوم على المطالبة بمكافحة الفساد والمفسدين، وحماية المال العام، في إطار من الاصلاح الدستوري والسياسي، وهذا كان طبيعيا، لسببين أولهما أن الأردن بظروفه الاقتصادية المعقدة لا يحتمل أي نسبة من الفساد المالي والإداري مهما تضاءل حجمها، فما بالك عندما تصل إلى الذروة في الاعتداء على موارد الدولة الأساسية، أما ثانيهما، فلأن الأردنيين بخلاف شعوب عربية كثيرة، لا يمتلكون ذاكرة سوداء عن نظامهم السياسي، في مجالات حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية،ولم يذوقوا ويلات الاضطهاد السياسي، أو التمييز الديني أو العرقي،ولم يعرفوا مرارات الحكم البوليسي ببشاعتها المعهودة في دنيا العرب، لذا لم يكن ممكنا أن تنصب نقمتهم على ممارسات قمعية للدولة وأجهزتها الأمنية،كما حدث في غير دولة عربية.
التقاليد الأردنية في صون كرامة الإنسان، جعلت الأردنيين في غاية الحساسية لأي مس بحرياتهم العامة والفردية، وجعلت رجال الأمن العام يتعاملون بكل هذا الرقي المستند إلى تراث عريق من احترام الإنسان، وجعلتهم يرافقون آلاف المسيرات والفعاليات الشعبية والحزبية بهدف تأمينها ومنع وقوع أي حادثة مفتعلة أو عرضية تتسبب في تعكير صفو الأمن الوطني. وعبر أشهر طويلة،حافلة بالأحداث الساخنة، حافظ رجال الأمن العام على رباطة جأشهم، والتزموا سياسة الأمن الناعم، القائمة على احترام حق المواطنين في التعبير عن آرائهم ومواقفهم في إطار من السلمية، غير المقيدة بسقوف في الشعارات أو في المطالب.
ولما كنا نسجل لأجهزتنا الأمنية سعة صدرها وبعد نظرها وحكمة سياساتها وإجراءاتها، فإننا نسجل لشعبنا بقواه السياسية وحراكاته الشعبية والشبابية التزامه الحضاري بقواعد التعبير السلمي، وتقيده بمعايير السلوك الوطني المسؤول.وبالرغم من بعض التجاوزات التي حدثت هنا وهناك، إلا أن الصورة العامة بقيت زاهية، فقد تمكنت الأحزاب من ضبط كوادرها وأنصارها، وإن تم تسجيل بعض علامات الاستفهام على الاستعراض الشبابي الاخواني في وسط البلد.والمهم أن قوى الحراك الشعبي، بالرغم من بعض الشعارات الفاقعة،اثبتت وعيها بأهمية الحفاظ على الأمن الوطني، وتجنيب البلاد أي خضات أمنية، قد تشكل مدخلا لكل شياطين العالم للعبث بمستقبل وطننا.
ولما كانت الصورة العامة زاهية بهذا الشكل، لم يكن مستساغا من أحزابنا السياسية وقوانا الوطنية وحراكاتنا الشبابية والشعبية والعشائرية أن تصمت في حالة الاعتداء على الشرطي من مرتبات الأمن العام في الطفيلة، فهذا الشرطي هو في المحصلة مواطن أردني وإنسان من روح ودم ولحم، وله أهل وأسرة، وله حقوق وحرمة ينبغي صونها ؟وهو رجل أمن يجسد رمزية الدولة وهيبتها، يستحق وزملاءه الشكر والتقدير على جهودهم في توزيع الماء والعصير على المتظاهرين وحمايتهم وفتح الطرقات أمامهم لأشهر طويلة. هذا الصمت الغريب لئلا أقول المريب، أقل ما يقال فيه أنه مرفوض وغير حكيم. وإن كنا نسجل للحراك الشعبي في محافظة الطفيلة إعلان براءته من هذه الجريمة النكراء، وتأكيده سلمية نشاطاته ورفضه للعنف بكل اشكاله ؛فإن العتب يبقى موجها لمجمل القوى السياسية والحزبية والشعبية التي كانت تنتفض للدفاع عن أي مواطن يتورط رجل أمن في مجرد طلب هويته للتأكد من شخصيته!
ولا ننسى صناعة القصة الإعلامية الكبرى المسماة "أبو منقل" ،ولنا أن نتخيل لو أن المطعون كان ناشطا أو مواطنا من غير جهاز الأمن العام كيف ستقوم القيامة نصرة له ؛ فمنعا يا ساده لازدواجية المعايير ،وحفظا لحالة الأمن و الاستقرار الثمينة التي ننعم بها في قلب نيران الغضب والعنف المتصاعد لهيبها في محيطنا العربي المشتعل ،علينا جميعا أن نتمسك برفض أي حالة تعدي على رجال الأمن العام ،أو استقواء على الدولة ،أو تطاول على المؤسسات ،أو هدر لكرامة اي مواطن أردني ،أو إعتداء على حقوقه وحرياته،مهما اختلفت الآراء والمواقف .