في ظل توترات المنطقة ،وتداعيات الثورات العربية،والصعوبات الاقتصادية والمالية التي تواجهها الدولة ،وما تفرزه من صعوبات ذات بعد اقتصادي - اجتماعي ؛كالفقر والبطالة ،ينتظر في ظل هكذا ظروف أن يزداد حجم التذمر العام ،وأن تتصاعد المطالب المحقة وغير المحقة،وأن يرتفع سقف الشعور بقدرة الافراد والفئات على تحقيق مطالب ونيل مكاسب يطمحون لتحقيقها منذ سنوات،باختصار هكذا ظروف تشكل بيئة مناسبة لتوليد الطاقة السلبية وتوزيعها على أوسع نطاق.
فمن يرقب المشهد الوطني يلحظ تراجع الطاقة الايجابية لصالح الطاقة السلبية ،ويمكنه بسهولة ملاحظة سيادة مشاعر الاحباط ،فاللغة السائدة هي اللغة الاتهامية ،أما العقلانية فغائبة ، إن لم تكن مدانة. والسوداوية هي سيدة الموقف، فكل شيء فاسد في عرف بعض من دعاة الاصلاح ،والبلد لم يحقق أي منجز يمكن أن يشار اليه، والأوضاع العامة للشعب تبدو أسوأ من أحوال الشعب الصومالي الشقيق ، والحياة العامة والسياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية لا يوجد فيها ما يسر البال ،أو يستحق الثناء. بصراحة، عندما نفكك الخطاب السائد لدى هؤلاء لا نعثر فيه على مقاربات إصلاحية ،بمقدار ما يزخر به من سوداوية واتهامية، فالإدانة للماضي وللحاضر هي البرنامج، وهي جوهر الخطاب ، ولغة العقل معطلة ،ولغة الأرقام غائبة،والتحليل المنطقي خيانة وجبن،ومن يقاربه أو يلامسه يعد مدافعا عن الفساد ومطبلا ومزمرا أو بلطجيا !
حالة التذمر العام هذه يغذيها كبار المسؤولين الفاسدين الذين عرضوا هيبة الدولة ومؤسساتها لخطر التلوث بسوء صنيعهم. ويعززها كبار المسؤولين ممن ينسحبون اليوم من الحياة العامة ،ويختبؤون في بيوتهم ،خوفا من مواجهة أصحاب الصوت العالي. ويزيدها حدة أصحاب القضايا الفردية والطموحات الشخصية .ويضفي عليها طابعا دراميا وسائل الاعلام الباحثة عن الاثارة والمنخرطة في معارك تصفية الحسابات . ويفسح المجال أمامها عجز الاعلام الرسمي وتقليديته ،واقتصاره على المعالجة الخبرية بعيدا عن المناقشة التحليلية لكافة القضايا والملفات .وبطبيعة الحال أبدع مجلس النواب في تكريس الحالة الراهنة عبر أولوياته المقلوبة رأسا على عقب. ولا شك أن للمسؤول الحكومي الضعيف الذي لا يعرف متطلبات اللحظة ، دوره أيضا،فهولا يتقن أدوات التعامل مع اللحظة سياسيا وإعلاميا وإداريا .كما أن المسؤول ورجل العمل العام الذي لا يتورع عن المتاجرة بمستقبله الفردي ولو على حساب المصلحة العامة عبر تسجيله مواقف صبيانية مثيرة للضحك طلبا لشعبية زائفة بل رخيصة، لا يغذي حالة التذمر فحسب ،بل يتحول الى مجرد سوسة تنخر في جسد الدولة والمجتمع . ومن الطبيعي أن الأحزاب والنقابات والمجاميع والتجمعات والفصائل المصنفة في خنادق المعارضة الايديولوجية والسياسية والشعبية كلها تلعب ليل نهار في الساحة إثارة ومخاطبة للغرائز السياسية وغير السياسية ، لا يردعها رادع . أما المغرر بهم وأغرار السياسة والعمل العام ،ممن لا يمتلكون أساسيات وأصول وبدهيات العمل السياسي والجماهيري،فهم يسهمون من جانبهم في الارتفاع أو الانحطاط بلغة الخطاب العام إلى درجات تتراوح بين الغليان والتجمد ،وفي الحالتين تتعطل لغة العقل. وينساق ويتجاوب مع هذه الأجواء أناس أبرياء يطمحون نحو حياة أفضل،ويرفضون الفساد ،ويأتي في مقدمتهم الشباب الباحثون ببراءتهم ومثاليتهم وطهرهم عن مستقبلهم وفرصهم في العمل والزواج والسكن والأمل. إذ يشكل الشباب وقودا للخطاب التأجيجي الذي يشعل فتيله أناس لا تعنيهم عذابات المعذبين ، بقدر ما تعنيهم مكاسبهم السياسية وشعبيتهم المزعومة ،القابلة لتصريفها إلى مقاعد برلمانية أو نقابية أو مواقع سياسية في الاحزاب والتجمعات الشعبية ،أو مقايضتها بمناصب ومواقع يمكن تحقيقها في الدولة ومؤسساتها عبر عمليات بيع المواقف، وشراء الصمت ،وتسليع المبادئ.