لحظات بمشاعر متناقضة كانت سببا لانحدار دمعة من مقلة عين جرحتها وجرت خارجة تنساب حفرت أخاديد على الخد, ولم تكتفي تلك الدمعة بخرق ما كان في طريقها إلا أنها تحولت لفيضان سقى ارض مرت عليها أقدام الفرسان والخيول في زمن مضى , للحظات يتخيل لي أني اسمع صهيل الخيل وصليل السيوف فوق حصن منيع مشيد بطريقة فنية بديعة – هبات نسيم ناعمة تتمايل على أثرها الأغصان والشجر بنفحة إلهية ألهبت المشاعر وابتسامة فخر لتاريخ مضى وقع على ارض الرباط, وقسمات وجوه نيرة تفيض عروبة ونخوة وقمة رجولة تناظرني ولمحة عين فاقت العتاب بمراحل بل كانت اقرب للاتهام , وجدت نفسي للحظات في قفص المحاكمة وقرع الطبول ومن حولي جمهور غفير وعلى منصة عالية يجلس القضاة وغريمي في الأمر دماء لشهداء روت الأرض حاملة رايات الشهادة تنزف بالنصر وصوت مناد ينادي "محكمة".
صوت عذب ابتدأ الكلام موجها يده نحوي بالإشارة – أنتم أقوام أتيتم عقبنا لم تصونوا الأمانة التي كسبناها وتشبثنا بها ودفعنا الغالي والنفيس لأجلها, ورثتم عنا الانتصارات وتفاخرتم بها ,لم تزيدوا عليها شبرا واحدا ولا كلمة خالدة , بل لوثتم صنيعنا بحقيقة جاحدة وبسيرة خامدة – كانت أمجادنا تُكتب بالبطولة والفداء وحُسْن الألقاب , أصبحنا بفضلكم نُذْكر بالرعونة والعداء والإرهاب.
صمت يطبق على الحضور ينتظر أن أتكلم , أدافع استشهد بصنيعنا , لم أجد ما يشفع لي من حضارة وصناعات وتطور ورُقي في عالمنا , كان كله مجرد اقتباس مشوه أُخِذ بالمظهر منه وزُهِد بالجوهر , كلما حاولت النطق بإحداها بادرتني نفسي بالصمت فكل ما أقول يُدين , نظرت نظرة حولي لعل الكلمات تسعفني أو بعض المنجزات تُنْجدني فلم أرى سوى حضيض وأوساخ وتصرفات لا تليق بحضرة الفرسان من حولي .....
مظاهر تفيض العين منها حزنا وألما على آثار مُحِقَت وبُدّلت بصور شائنة وسوء تقدير وإدارة وأموال منهوبة في غير محلها , أرضنا وتراثنا وفرساننا الذين ساروا على نهج الكرامة فما كان ممن خلفهم إلا وجاروا عليهم وبدلوا ما هو خير بالذي هو أدنى – وما وجدت حولي من واقع أعيد ترميم بناءه بوسائل مبتذلة وتلاطم عصر بلا حياء على ارض شهدت ملاحم نصر وشرف وكبرياء.
مظهر آخر لعقول حضارية ادعت العلم والمعرفة والفحص والتنقيح لأسلاف كانوا خير هَدْي لتاريخ أمجاد عريقة – محاولات يائسة للتفنيد والتحليل ونسف تاريخ كامل بحجة الانفتاح وإعمال العقل بلا جدوى,وَضْع من كان فخرا للأمة والبشرية موضع البحث , وفشلا ذريعا يحيطهم تتسلل من بين أيديهم كل قوة ضاربة ويمتلئ العقل لديهم من كل شيء سوى العقل, ويصبح كمن يتخبطه الشيطان من المس , تلك العقول لو وضعت تحت مجهر ماذا يمكن لنا أن نرى؟ وكم من لوثة أصابتها؟ وكم من فتنة وشبهة تخللت الأفكار ومسيرة الحياة؟ وما الوسيلة لتحصيل العلم والمعرفة؟ وكم دامت المحاولة في البحث والتقصي؟ وهل سيُسْمع لهم أم يُضرب بهم عرض الحائط؟ ما تاريخهم وسندهم ؟ لا شيء...بل كانوا مجرد فروع بلا جذور تتمايل في مهب الريح مع كل نافث للسم وناعق, ما هم سوى انهيارات تتبعها لعنات الأولين والآخرين.
ما لبثت تلك المفارقات بين حاضر مؤلم حزين وقهر وبين ماض مشرّف مدعاة لكل فخر ,إلا وصوت مجلجل ينادي" رفعت الجلسة" فأسدل الستار على مسرحية تجارها أحياء ولكنهم أموات وغثاء ما لبثوا إلا ويسحقون , وأبطالها أموات ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون .
انسحبت بصمت من تلك الحلقة ونظرات الاتهام تلاحقني وأصوات من سبقونا من بناة قاموا بتشييد صرحا عظيما تطاردني, دعونا بمفازتنا فقد نلنا كرامتين , كرامة النصر والشرف والتاريخ يشهد , وكرامة حب الموت والله يشهد , ارحلوا ارحلوا .. ودعونا بسلام فما كان منكم إلا العار والاستسلام .