احتضار امرأة لا تموت
بقلم: د. آية عبدالله الأسمر
سألها وابتسامة في عينيه تداعب خصلات الوجع الممدة بين جفنيها: لماذا تتكئين على رفوف الحزن؟ على غير عادتك تترنح نظراتك على أرصفة الخوف والدهشة والحيرة، تحاولين ابتلاع غصة تأبى إلا أن تفضحك بقاياها الهاربة من الجوف إلى الشفتين، يدهشني صمت ملكة الكلمات!
أجابته وأوراق التعب تتساقط من حجرات القلب الذاوي على أرصفة الجراح والوحدة والشوق: تريدني أن أنهمر كالمطر، وأنا أشتعل ككرة من نار، تريدني أن أحارب كالريح وأنا أرتجف كعصفور جريح، تريدني أن أصمد كصخور الجبال وأنا بشر أتبعثر كالتراب، تريدني أن أهدر وأزمجر وأنا كقطة مذعورة جائعة تبحث عن دفء حضن وكسرة حب، تريدني أن أبتسم وأنا في قاع الوجع تمزقني رماح الضياع.
لم يتمكن من احتضان يديها، وتقبيل الألم الذي يبلل أصابعها، لم يتمكن من مسح دموع القهر التي فرت رغما عن كل قيود الصمت لتتوغل على وجنتيها الذابلتين.
"أعلم أنه ليس بمقدورك أن ترتشف أحزاني، وسيبقى فنجان القهوة بيننا باردا مرا حزينا وأسودا، ولن نلتقي إلا في الصباحات المشرقة ضياء، لتعود وحدك محملا بالذكرى، وأعود وحدي مثقلة بالشوق."
غمرتهما لحظات من الصمت ثقل فيها الكلام، وعزّت الحروف، لم تلتق العينين وتراشقت النظرات في فضاء المستحيل.
"ماذا تريدينني أن أفعل؟"
"أكره الرجال عندما يسألون النساء؟ وأكره النساء اللواتي يقدن الرجال؟"
"ولكن..."
"أكره الرجال عندما يتعثرون بلكن، وأكره النساء اللواتي يحببن الرجال المتعثرين"
"إذا أخبريني..."
"أكره الرجال الذين ينتظرون من المرأة أن تخبرهم، فإن كنت سأخبرك فأنا لست بحاجة إليك"
هم بالنهوض ولكن استوقفه شقاء امرأة أحبها، رغما عن محمد وعن يسوع وعن موسى وإبراهيم، مزقه صراخ صمتها الهادر وهو يستبيح حرمة عجزهما.
عاود مغازلة ضفائر اليأس المتناثرة على وسائد وجهها الملائكي: ابتسامة شفتيك أشهى من الحزن المكوّم في عينيك، وجمال نظراتك الحانية كسيقان النرجس، أقوى من الخوف المتطاير منهما، وعبير كلماتك أزكى من فراغات الصمت المشيدة على أسوار حضورك اليوم.
أجابته بمرارة جائع يتضور جوعا وهو يقضم اللقمة الأخيرة: لم تنصفني الأيام، وأجحف القدر في حقي، فأنا امرأة أتوق للحياة المتسكعة خلف الأبواب الموصدة أمامي، وأعجز عن الموت والنسيان، وهنالك أزهار نابتة على عنقي، تشق طريقها على جدران قلبي، وتتسلق على جنبات الروح رغما عني، وثعبان مجنون يلتف حول بنصري، وسيوف الطفيليات مسلطة على عنق خطواتي، عاجزة أنا عن الحركة، لا أجرؤ على أن أخطو نحوك، ولا أقدر على التراجع، حتى ملائكة الموت تدعني أعبر بسلام، لأنها تعلم أنني مرتبطة حتى النخاع بالتزامات، لا يمكن التحلل منها أو التخلي عنها، اعتدت على النهارات المرهقة، والوسادات المبللة بدموعي الصامتة الساخنة الضائعة.
زحفت عقارب الوقت على بطن الصمت المحدق، في وجه اللحظات الأخيرة وهو يحضن يدها: سأشتاق إليكِ كاشتياق المؤمن للجنة.
أجابته بحسرة محتضر يدرك حجم خطاياه: لن نلتقي مرة أخرى إلا في الصباحات المكتظة، وسنبقى غريبين، يجمعهما فنجان قهوة وهوس سياسي، ورائحة عطري الممزوج برائحة تبغ سجائرك، ثم ترحل وحدك وأعود وحدي، ولن يتبقى لي منك سوى عذوبة صدفة اللقاء، ورائحة المطارات، وهذيان السماء تحت وطأة النعاس.
تركت يدها الصغيرة تحترق في حضن يده الدافئة، في تجاهل متعمد لقواعد لياقة السلام، واحتفظ هو بأوراق التوت المتساقطة من يدها المرتعشة في أوصال ذاكرته، ومضت مخلّفة وراءها رائحة دموعها الحمراء تنساح على الأشواك المتعملقة على الطريق المسدود بينهما، وهي تدرك مثله أنهما لن يلتقيا ثانية إلا في أروقة الصدفة الهازئة بعذابهما، وذهولها من قدرتها على السير والاستمرار والابتسام، يقفز أمامها كطفل يلعب بالكرة بحماسة!