يُعدّ البحث العلمي الحقيقي قيمة إضافية كبيرة في رصيد أي جامعة مرموقة, تسعى للتميز والبروز, وتبوء مكانة علمية متقدمة بين المؤسسات والمعاهد العلمية. البحث العلمي في مستوى الدراسات العليا, أي الدراسات في مستوى الماجستير والدكتوراه, يشكل البداية الجادة للطلبة لتمثل قيم البحث العلمي من حيث الإخلاص والدقة والموضوعية والصدق وعدم التحيز, وامتلاك مهاراته وأدواته من حيث استخدام المنهج العلمي المناسب والتعامل الصحيح مع البيانات والتطبيق الأنسب للأدوات البحثية لمعالجته قضايا المجتمع وتصديه بالأسلوب العلمي الموضوعي للمشكلات المختلفة التي تحول دون تقدم عجلة التمنية بمجالاتها المختلفة في أي بلد وتفاقم من مشكلاته وتصعب وتعقد من الحلول المقترحة لها.
البحث العلمي في بلدنا الحبيب بدأ يمر بأزمة أخلاقية خطيرة, ينبغي الوقوف عندها كثيرا, والتصدي لها بكل حزم وشجاعة وصراحة وصدق, بعيدا عن الإطراء الرقمي الكمي, والذي يباهي ويحصي لنا الكم الكبير من الرسائل الجامعية التي تُجاز في مختلف جامعاتنا, والتي وللأسف الشديد لا تجد من يلجأ إليها أو يحط عليها غير الغبار, والمزيد من الرسائل المتهالكة.
البحث العلمي بشكل عام, والرسائل الجامعية بشكل خاص, أصبحت الآن سلعة تُباع على باب كل جامعة من جامعاتنا الوطنية, التي نفاخر ونعتز بها, وكانت محط فخر كل أردني بمستواها وتميزها إلى عهد قريب. المكتبات التجارية التي تنتشر كانتشار البثور على الوجه الجميل الحسن بدأت تُشوه صورة البحث العلمي والجامعات والأساتذة على حد سواء.
المكتبات المنتشرة على أبواب الجامعات تُعلن صراحة وبالخط العريض عن خدماتها المتميزة في إعداد الرسائل الجامعية, والتسليم على المفتاح كما يقال, أي التعهد بكتابة الرسالة الجامعية, وإجراء التعديلات التي قد تطلبها لجنة مناقشة الرسالة, أو لجنة المناقشة, وكل الإجراءات الأخرى المتصلة بالبحث العلمي, كالتجليد أو التغليف، لا بل والتكفين وصلاة الجنازة على البحث العلمي المقتول أيضاً.
المكتبات صراحة تُعلق على أبوابها أنها تقدم الخدمات الآتية: إعداد الرسائل الجامعية(ماجستير ودكتوراه) ومخططات الأبحاث والدراسات، ونقد الدراسات، ونقد الأبحاث، وتنقيح الرسائل، والتدقيق الإملائي والتحليل الإحصائي spss والطباعة والترجمة, وبأسعار منافسة بالطبع. فماذا بقي من البحث العلمي ومن الرسائل الجامعية؟ وماذا بقي من سمعة الجامعات والأساتذة والدراسات العليا؟!
اكتب والألم يعتصرني, وأنا أرى واسمع هذا الانزلاق والانحطاط الأخلاقي والعلمي الخطير في معاقل التعليم العالي, وقلاعه التي بدأت وأخذت بالتهاوي واحدة تلو الأخرى، ونحن نشهد هذا الانهيار ونُغمض أعيننا ونصم آذاننا ونُجلد مشاعرنا وأحاسيسنا, ونلجم ألسنتنا, ونرقص طرباً وفرحاً بهدر دم الوطن والمواطن وواد المستقبل. أتمنى على الجامعات وإداراتها, ووزارة التعليم العالي, وكل المخلصين لخير هذا البلد, أن يدقوا ناقوس الخطر ويعيدوا التعليم إلى طريقه قبل فوات الأوان. كما ينبغي على الجهات المعنية, دعم البحث العلمي المتميز الجاد, وعدم مساواته بالبحث الهزيل الذي تحدثنا عنه في المقال, فهناك الكثير من الأبحاث والدراسات التي تستحق الدعم والتشجيع.