كنت ممن غنوا وطربوا في البراري مرددين صبح مساء أغنية شعبية يقول مطلعها : غابت الشمس يابن شعلان واريد ادور معازيبي .... ورغم ان كلمات الأغنية لم تكن من وحي جبالنا ولا سهولنا أو هضابنا وإنما كان مصدرها يبعد عنا كثيرا في أطراف نجد ، ومع ذلك جمعنا على الدوام مع الشاعر نفس المشاعر و لحن لايخلو من نبرة الحزن .....ولعل همنا المشترك ظل دائما وأبدا يتخطى الحدود والحواجز مهما نأت بنا المسافات والصور ....إنها حال الدنيا.
وعندما تسللت الى المدينة الجديدة وسمعت المذياع لأول مرة أخذت على حين غرة بصوت عبد المطلب وهو يغني اغنيته الشهيرة : ساكن في حي السيدة ، وحبيبي ساكن في الحسين ، رغم انني لم أستطع حينها تفهم مواقع هذه الأحياء السعيدة التي جمعت كل الحب والقدسية والفن الرفيع في مكان واحد وبآن واحد .
فتشت كل الأزقة والساحات وطفت بكل مسجد وملعب و حانة وركن ، ولم أعثر على سيدة عبد المطلب ولا على مسجد الحسين ولا حتى حكاية ليلى العامرية.
وعندما عبرت الشوارع المليئة بالناس أسرعت الخطى أمام المقهى متخليا عن فضول النظر والفرجة ... بعد ان انتابتني هواجس شتى بشأن رواد المكان وطباعهم الغريبة ، وقد بدا لي منها تعلقا شديدا بالشيشة التي ظننت انها أداة الحشيشة ، وأن لاعب الزهر بينهم هو نفسه المقامر واعتقدت جازما أن شارب السوس سكير ومعربد خطير لأنه شارب العرق ذاته ، سيما وأن البائع كان يروج لهذه السلعة الغريبة مناديا باستمرار .... عرق يا سوس ...
كم كان المكان مستهجنا وموحشا ومفزعا لطفل صغير وهزيل مثلي ، بعد أن رأيت نسبة لا بأس بها من أصحاب الدكاكين وقد طغت عليهم سمنة مفرطة ، ولم تكن عباراتهم خالية من طابع العربدة والعنجهية والأستهتار بكل طفل أو عابر سبيل ...عندها غادرت كل الأماكن مبتعدا مسافة غير قليلة باتجاه حافلة العودة ، ولم يعد يستهويني في المدينة سوى الملابس الجديدة بألوانها الزاهية ، وحبة الفلافل التي أكتشفت فيها عالما مدهشا من لذيذ الطعام .
كل ذلك جرى في حياتي على نحو دفعني باستمرار الى التشبث بالجذور، ومع ذلك لم استطع البقاء بعيدا عن صخب المدينة ، التي عدت اليها شابا والتصقت بها أسوة بأقراني ابناء القرى والبوادي الذين هجروا صفوة الأماكن و زحفوا مثلي نحو الضجيج... وهكذا عشنا عالما جديدا نسينا فيه (يابه ويمه) وعلمنا أولادنا (بابا وماما) واتخمنا من أكل الفلافل والمعكرونة ودجاج المزارع حتى استفحل فينا السرطان .
هكذا كنا ولا زلنا نبحث عن هوانا بكل الاحياء كما يبحث الطيرعن حبة العلف في قفر قاحل غزاه الجراد ، ورغم طول المسافة ومشقة المسير فإننا لم نصل بعد لما نسعى ونهوى ، ولم ينتهي بنا المطاف الى جوهر المدينة السعيدة التى طالما حلمنا بهواها ، وعندما عدنا الى مرابعنا الخضر التي لم يسعفنا الزمان والمكان في نسيانها بعد طول غياب ، لم نجد فيها ما يشبع فأرا ولا سنور، بعد أن طارت منها (الرِبّة) وجف زرعها لإنحباس المطر ....وعندما قصدنا الأئمة السابقين ملتمسين الإصطفاف ورائهم لصلاة الإستسقاء ولكنهم هزوا رؤسهم باستخفاف شديد ، و أشاحوا وجوههم عنا ببساطة وغرابة ، وتمتموا قائلين : لسنا على وضوء في هذه الساعة ولا نعرف التيمم ....فضربنا كفا على كف وأدركنا حقيقة ضياع موسم المطر وانقطاع أمل الحصاد .... ..........في أرضنا نحن ؟