عادة ما تتحالف فئات الشعب وشرائح المجتمع من أجل مطالبها وحقوقها ومصالحها في مواجهة الحكومات، واليوم نحن إزاء مطالب المعلمين الذين يصرون ويعتصمون ويحتجون أمام رفض الحكومة لإنشاء نقابه لهم، وعلى اعتبار أنني منخرطة في العمل النقابي وعلى مقربة بصورة أو بأخرى من سلك التعليم فإنني أتساءل:
لماذا يرغب المعلمون بإنشاء نقابة لهم؟
وما الفائدة التي سيجنونها من وراء هذه النقابة؟
وهل المعلم الجاد في عمله والمنهمك في إعداد حصصه والمنشغل في أعباء لا تعد ولا تحصى، والتي تبدأ من واجبه كمربي فاضل يتوجب عليه غرس القيم النبيلة والفضائل السامية في نفوس تلاميذه، وتنتهي بمهمته كمعلم تقع على عاتقه مسؤولية إيصال المعلومة إلى ذهن الطالب بشتى الطرق الميسرة والسبل الممكنة، مرورا بقائمة طويلة من الترتيبات والتحضيرات الشفهية والخطية لإرضاء أولياء الأمور والمدير والمشرف والموجّه، هل مثل هذا المعلم –إن كان ما زال موجودا أصلا- يهتم حقا بإنشاء نقابة له؟
نعلم جميعنا أن مرجعية المعلمين في جميع مدارس المملكة تعود إلى وزارة التربية والتعليم، أما المدارس الخاصة فمسئولة من التعليم الخاص، في حين تحتاج المهن الأخرى لنقابات توحّد مرجعيتها بسبب اختلاف القطاعات التي تنشط فيها هذه المهن ما بين قطاع حكومي وخاص وأكاديمي، إذا ما الذي ستضيفه نقابة المعلمين إلى معلميها ومنتسبيها؟
فاجأتني أجوبة بعض المعلمين الذين يعتصمون من أجل إنشاء نقابة لهم بأن إصرارهم على إنشاء النقابة مرده إلى حاجتهم إلى تحسين مستوى معيشتهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وحتى ترد لهم النقابة اعتبارهم واحترامهم الذي فقدوه بعد أن أصبح المعلم مهانا في مجتمعنا، ومما زاد من دهشتي أن أحدهم اعتز بمآزرة الطلبة للاعتصام ومساندة الطلبة لمطالب معلميهم على اعتبار أن النقابة حق مشروع للمعلم.
ما استفزني في هذه الأجوبة التي يتجلى من خلالها الفهم المغلوط للنقابة وماهيتها ووظيفتها وأهدافها أن إنشاء النقابة سيضر لا بالمعلمين بل بالعملية التعليمة المتآكلة مسبقا والآيلة للسقوط سلفا، وذلك للأسباب التالية:
1- بعض المعلمين يحلمون بنقابة لهم لأنهم يعتقدون أن النقابة سترد لهم احترامهم واعتبارهم الذي فقدوه، المعلم في المجتمع هو رسول الأخلاق والعلم والقيم والمعرفة والثقافة، هو الأب الثاني وهي الأم الثانية وهو القدوة والنموذج وهو الصديق والمربي والموجّه، ورسالته بأهميتها وحيويتها ودورها في تكوين الإنسان ونهضة المجتمع وبناء الأمة هي رسالة مقدسة ورفيعة وسامية، وما يحدث اليوم من انهيار للعملية التربوية وتصدّع للصرح التعليمي سببه ممارسات الكثير من المعلمين الذين تهاونوا في أداء واجبهم وقصّروا في فهم معاني ومقاصد مهنتهم وتقاعسوا عن أداء الواجب الوطني المنوط بهم، وهذه الأمور لا تردها مائة ألف نقابة ولا يمحوها إنشاء مملكة كاملة للمعلمين، فالمعلم القدير الذي يحترم نفسه ومهنته وعلمه ودوره وطلبته وحقوقهم هو وحده القادر على أن يرسو بمراكب المعلم على ضفاف الاحترام والتقدير والتبجيل. لقد عاصرت جيلين أو ثلاثة من المعلمين ولمست بنفسي البون الشاسع ما بين معلم الأمس بجلال هيبته وعمق علمه وزخم معرفته وسعة ثقافته ونبل أخلاقه (بالطبع مع وجود استثناءات) وبين معلمي اليوم الذين نكن لهم كل التقدير والاحترام إلا أنني أرى أنهم يحتاجون إلى أمور كثيرة أكثر أهمية وأجدى نفعا لهم ولطلبتهم ولوطنهم قبل حاجتهم لإنشاء نقابة.
2- بعض المعلمين لا يحلمون بنقابة لخدمتهم وخدمة مصالح زملائهم بل يحلمون بالمناصب النقابية التي سيتناحرون عليها، يحلمون بكرسي النقيب وعضوية المجلس وما سيلي ذلك –ربما- من عضوية برلمان أو منصب وزاري، وأعتقد هنا وسط تململهم الدائم من كثرة الأعباء والمسئوليات التي لا يفتئون التذمر منها أن طلبتهم ومهنتهم أولى من تلك الجهود التي سيتم تشتيتها في سبيل النقابة وكراسيها ومغانمها التي سيختلفون ويتشاجرون وينقسمون على بعضهم البعض بسببها.
3- أما الفئة الثالثة من المعلمين فتتطلع إلى الدور السياسي الذي ستلعبه النقابة على صعيد الساحة السياسية الداخلية، فالسياسة هي آفة كل النقابات المهنية التي تأكل الأخضر واليابس في العمل النقابي وتفرّع العمل المهني من مضمونه لحساب أحزاب وتيارات وتوجهات سياسية وفكرية وأيديولوجية.
4- بالطبع سيشجع الطلبة احتجاج واعتصام المعلمين، وسيسعدهم جدا أن يزداد المعلمون انشغالا عنهم وعن واجبهم تجاه تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم، وأضحك من أن بعض الطلبة يؤازرون معلميهم في حين أن الكثير إن لم يكن غالبية العاملين في القطاعات والمهن المختلفة يجهلون دور النقابات وأهدافها وقوانينها ومسئولياتها، وأزداد غرقا في دهشتي وأنا أسمع أن النقابة ستحسن للمعلمين أوضاعهم المادية وأحتاج إلى نقابي واحد يترجم لي هذه الجملة السنسكريتية في القاموس النقابي؟
أنا من الشعب ومع الشعب ومن الناس الذين يقدسون المعلم ومهنته ورسالته ودوره في المجتمع وبناء الأمم والحضارات، وأومن تماما بحقهم في حياة كريمة واحترام الآخرين لهم وتقدير لجهودهم الخيّرة وأياديهم البيضاء، إلا أنني أعتقد أننا في مرحلة حرجة تحتاج منا إلى تكاتف الأيدي في سبيل البناء والعطاء والنهوض بالمسيرة عوضا عن تشتيت الجهود وتخبط الأهداف وضبابية المفاهيم التي ستخدم فئة صغيرة على حساب الشريحة الأكبر، ويترتب على هذا ضرورة ترتيب أولويات المعلمين والعملية التربوية والمسيرة التعليمية بشكل كامل والتي لا تتصدر النقابة –في الوقت الحالي- قائمتها.