كلنا قرأنا في كتب التاريخ عن حكاية الجدل الفكري الذي ثار على أعلى المستويات حول مقولة (خلق القرآن) التي تبناها الخليفة المأمون ، وكيف تسببت هذه النظرية الجدلية في جلد الإمام أحمد ابن حنبل وسجنه ثلاثين عاما نتيجة تمسكه بمعارضة مزاعم الخليفة وأصراره على ان القرآن كلام الله وليس مخلوقا من مخلوقاته .
ولم يفت أحدا منا ملاحظة الجدل الفكري الذي ثار بين الإمام الغزالي والفيلسوف ابن رشد ولا عناوين كتبهما المشهورة : (تهافت الفلاسفة) و(تهافت التهافت) . ولا جهل أحد منا آراء ابن عربي التي زعم فيها انه يحكم العالم بأسره وعاصمته مكة .....ولكن هل أجمعت الأمة الإسلامية على تكفير أحد المتناظرين أو تناولت فكر أحدهم على محمل من السخرية والإستخفاف ؟
الحقيقة تقول ان الأمة لم تجمع على تكفير أحدا ممن حاولوا طرح فكرة جديدة مفيدة ، وإنما بقيت كل الأفكار التي طرحت موضع درس وتمحيص واعتبار شديد وظل القائلون بها في منزلة عالية ، وحافظ المجتمع الإسلامي على احترامهم والفخر بهم ، حتى وإن تعارضت آرائهم أحيانا مع قناعات البعض .... ورحم الله عصور النور التي مضت بأصحابها ممن جادلوا بكل شيئ حتى بمسألة خلق القرآن من عدمه دون أن يطعن أحد بتقواهم.
اليوم وفي عصر تجيز فيه الشعوب لنفسها حق محاسبة الزعيم على طريقة الإعرابي الناقدة لعمر بن الخطاب ، حول أسباب زيادة طول ثوبة عن باقي ثياب الناس ، يطل علينا من يتخذ من الدين مظهرا كاذبا للوصول الى هدف فاسد او تافه يرتبط بشهوات الثأر والإنتقام البعيدة كل البعد عن غايات الإسلام وأهدافه الرامية لبسط العدالة وإسعاد البشرية .
وهكذا اصبح من السهل على كل الصغار والجهلة والمتطفلين على الفكر الإسلامي الصحيح ، إدعاء الولاية المطلقة على مصالح المسلمين ورسم آفاق الحاضر والمستقبل لكل من حولهم ، رغم تجردهم المطلق من العلم والمعرفة الحقيقية التي تعد أساس فهم الدين وكتابه العظيم الذي بدأ بكلمة (إقرأ ) ، وبات بمقدور كل متطاول على أهل العلم النافع تنصيب نفسه محاسبا لكل الناس ورقيبا لأقوالهم وأفعالهم ونعت مالا يعجبه منها بالكفر والزندقة بمنتهى البساطة ...فلماذا ؟
هذا التنطع المعادي لأصول الدين أدى بحق الى الإضرار بالناس وحجب التجديد في الفهم الأفضل لمقصود الشريعة الغراء ولم يتحقق معه مصلحة أحد ، وإنما شكل وجها من أوجه عرقلة التقدم في شتى الميادين وأساسا لإرهاب أهل الفكر في طرح آرائهم حول أبسط الأمور حتى بات حل معضلة التعامل مع البنوك وبيان مدى حلالها من حرامها أمرا غير مقنع لأحد ، وشغل الناس جميعا في ثوب المرأة ومراقبة طوله وقصره وشكله وألوانه ، بدلا عن رصد العدالة والسعي لإحقاق الحقوق .
هؤلاء المنظرين الصغار يتعاملون مع الناس بزجر وترغيب وترهيب وكأنهم أهل الحق والحقيقة وحدهم دون سواهم وينظرون لغيرهم بإجحاف مطلق وكأنهم من المؤلفة قلوبهم أو المنافقين أو المفسدين في الأرض....... فلماذا ؟
الأمثلة كثيرة على هذا الطغيان الفكري المستغرب ولا يمكن حصرها أو حصر طغاتها. فلو تجرأ أحدهم على معارضة التمسك في الحجاب لدى عواصم الدول الأوروبية التي لا يتوانى بعض زعمائها عن تجديد الدعوة لتكرار الحروب الصليبية بكل ما عرفت فيه من قبح ومجازر غدت عارا على التاريخ البشري كله ، وقال بصراحة ان إثارة النزاع في اوروبا بشأن الحجاب في هذا العصر لا يخدم مصلحة المسلمين ولا يرفع من شأن الإسلام بشيئ ، لانبرى من يصفه بالكفر والزندقة وخرج المتظاهرون للمطالبة بدمه ، وبصورة مماثلة لما كان يجري في اوروبا عند معارضة الكنيسة في العصور الوسطى .
ماذا جنينا من هذا الحال المزري غير تكبيل الأجيال الجديدة ضمن قوالب ورؤى أصغر حجما من مستجدات العصر وأعباءه وتمكين كل اللاعبين بساحاتنا من ارتكاب الفضائع والمنكرات باسم الإسلام والمسلمين وتشويه سمعة من وضعوا الأسس التاريخية لحماية الشيوخ والنساء والأطفال من بطش الغزاة ، واستخدام اسمهم و ربطه بترويع الآمنين وإسقاط طائرات الركاب المدنية ، وهدم الأبنية على النائمين ، وقطع الرؤوس بالفؤوس ، وتفجير مواكب الحجاج وتجمعات الأعراس والمآتم وتدمير الدول والأنظمة وشيوع خراب البيوت...فإلى متى يستمر بنا الحال على هذا المنوال المجحف وأين هو الإصلاح الحقيقي وأهله ومفكري الأمة والمجددين.... ؟