ذهبت إليه بقدمي , والأفكار تتسارع في رأسي , أُرتبها , وأُعيدها , ثم أتلوها على مسمعي , والغايات تحفر في وجداني الخطوط العريضة , أُريد أن أُثبت له أنني مخضرم , أريد أن أُقنعه أنني لا أقل فهماً ولا علماً عن أي محلل سياسي أو اقتصادي , حتى لو وصل الأمر الى علم الذرة فإن لي فيه من الشعر أبيات , لا أنكر أنني أبحث عن إثبات لشخصيتي , وإعتراف بمنهجيتي , وإن حصل ونلت من الإعجاب صيداً , فزد اللهم وبارك.
أعلم أن له أسلوبه الخاص , وطبيعته متميزة , ولا يخشى في قول رأيه شيئا , صريح جريء , والخبرة تعلمت منه الكثير ,نظيفٌ عفيف , خدم ويخدم الوطن دون كلل أو تعب , إبتسامته ثقة , وصمته معرفة , في كل كلمة ينطق بها تغني حروفها منشدة أعشق الأردن , ولائه الكبير وماضيه المشرق كحاضره , من الأمور القليلة التي يتفق عليها كل الشرفاء وأهل الحق والعدل في هذا الزمن , لا يجامل , وإن حصل يوماً ومدحك ولو قليلا , فاعلم أنه لم يمدحك إلا بما هو فيك فعلاً , ومع ذلك فحدود طموحي واسعة , والنفس التي تسكنني متمردة , سأَجلس واقفا , وأَسمع له متحدثاً , وأُكلمه مقنعاً, فثقتي في نفسي سقفها السماء , فلم أفعل إلا ما أنا مقتنع به كأُردني بدوي متعلم.
قابلني مبتسما , مرحبا , يجلس في الشمس , على باب بيته وفي حديقته الخاصة , علق على صلعتي مستفسراً : أهي الموضة أم ولى شعرك يا ولدي ؟ ضحكت حتى لا أُشعره أنني أتحسس من موضوع صلعتي , وأنني واثق الصلعة يمشي ملكاً .
ماذا تشرب ؟ , وماذا يشرب المدخنون إلا القهوة , ولكنني لا أدخن أمامه ,ليس خجلا فقط وانما خوفا ايضا فهو في هذا الموضوع لايرحم , فقلت: ليكن شاي, وبلحظة سريعة وُضع أمامي كأس الشنينة البيضاء الناصعة كالثلج , شنينة؟ لبن مخيض ؟ حسنا لا بأس هذا اول التحدي , ولا بد أن أشرب الشاي .
بعد السلام والسؤال عن الأهل , و عن الحال والأحوال , وأنا منتظر متحفز على أهبة الإستعداد , وكان في يديه كتاب إسمه بانورما الكرك , سألني : هل قرأت هذ الكتاب؟ إنه للدكتور يوسف الحباشنة المحترم , أجبته بالنفي , فقال بعد أن اثنى على الكاتب وأسلوبه : هذا كتاب يتحدث عن كثير من الأمور التاريخية القديمة لمحافظة الكرك , ويشرح كثيراً من المصطلحات الكركية البدوية القديمة , فقلت له : لم أقرائه , عندها قلب بعض الصفحات وسالني بطريقة الاستجواب : هل تعرف ما هو الودق؟ الوثر؟ الطاسة ؟ الوهد ؟ ...الخ وفي كل مرة كان يبتسم ثم يعيد الاستجواب : ما هو الربق ؟ ما هو و ما هو و ما هو ....الخ.
كان لساني على وشك أن يقول له: هذا زمان مضى وتاريخ ذهب في حال سبيله, ولكنني أنصتً لنفسي , نعم من ليس له أول ليس له أخر , كيف سنشيد الأردن الحديث ؟ كيف سنحارب الفاسدين ؟ كيف سنبني ونحن لا نعلم عن القاعدة شيئا ؟ , ونحن نغوص في أعماق الصراعات والمنافسات , وننسى الأساس الذي إنطلقنا منه , كيف نتغنى ببدويتنا وحبنا لأرضنا , ونحن نشد أنفسنا لنخلعها من جذورها ؟ , كيف نقول ونعلن: أن مصلحة الاردن فوق كل اعتبار , وننسى أن ليس كل ما نراه أسوداً خبيثاً هو كذلك في عيون كل الناس , وليس ما نراه أبيضاً صالحا هو صالحا في عيون كل الناس .
قلت له وقد بدأت أتلمس الغاية من وراء هذا الاستجواب , يا دولة الرئيس : ولكننا بسطاء , نقول ما نفهمه , وما نفهمه مما نسمعه وبعضا مما نراه فقط , قال : وليس كل ما تسمعه صحيح , وإن كان صحيحا فليس كل ما تسمعه تقوله , وإن قلت , فقل ما يخدم وطنك ويجنبه المصائب أو على الأقل تخفيف المصائب , لا تتفننوا بقول الفكرة في العنوان , حتى تؤثر في الناس ويقرؤون لكم , وكل ذلك على حساب الفكرة نفسها , أُكتب ,أُنشر تحدث ولكن لا تنسى: أن الاردن اكبر ويستحق منا كل دعم ومساندة وصبر , لا تجبن ولا تيأس , ولكن لا تجعل إسمك اكبر من إسم الاردن .
معقووووول ؟؟؟؟؟؟ هل فعلاً أنا كذلك ؟ هل فعلاً أبحث عن مساحة لإسمي على حساب وطني؟ , هل ما أكتبه مهم جداً ؟ لأنني أنا من كتبه ؟ أم لأن الفكرة فيه مهمة جداً ؟ وتخدم وطني ؟ , لماذا أرى مقالات كثيرة ولا أقرائها ؟ ولكن حين أرى اسم الشيخ الهدبان أو الزعبي أو الدكتور بن نمران العطيات أو الفزاع علاء أو سمير الحياري أو الوكيل ...الخ , أقفز الى حروفهم التهمها ؟ هل هي الأسماء أم الأفكار .
يجب أن يُراجع كل واحد منا نفسه , وعلى كل واحد أن يقرأ ما يكتب أولاً , ليس للتأكد من عدم وجود الأخطاء الإملائية و التزويق , ولكن ليتأكد أن إسم الأردن أكبر و أقوى من إسمه , وأن كل حرف مما نكتب ينطق بإسم الأردن , هي دعوة سأعمل بإذن الله جاهداً أن أُطبقها على نفسي , فكلمة دولة الرئيس أصابة في نفسي وتراً و ترك فيها أثراً حين قال لي : ًلا مستحيل مع حب الوطن .
ملاحظات مهمة جداً :
1- دولة الرئيس الذي استجوبني هو : دولة الدكتور العم عبد السلام المجالي أبو سامر حفظه الله ,ولا أظن انكم لم تعرفوه من البداية.
2- إذا أردتم معرفة معنى المصطلحات المذكورة أعلاه , إرجعوا الى كتاب بانوراما الكرك للدكتور يوسف الحباشنة .
3- لم أشرب الشاي , ولكنني حين هممت بالخروج , همست له بكلمات وأمنيات, و رد علي بنظرات وإبتسامات من عينيه , لم أرها منذ وفاة والدي رحمه الله.
ولكم سادتي جزيل الشكر.
حازم عواد المجالي