سمعت عنها قبل أن أراها...
قالوا لي أنها جميلة ومنفتحة ونشيطة وذكية وقوية وجريئة...
قالوا أنها وردة متفتحة، ومتحدثة لبقة، وشخصية صلبة، وأنها هرم شامخ ونبض جامح وعطر فواح...
رأيتها لأول مرة في حفل زفاف أحد الأقارب، بقوامها الممشوق الملفوف بالشيفون الأسود المبطن بالحرير، بكتفيها العاريين إلا من كبرياء صبية حسناء تتهادى بفخر على أعتاب العشرين، بشعرها المشدود بقسوة إلى الخلف على شكل ذيل فرس برية متوحشة تتوق للحظة ترويض، بنظراتها المرصوفة بأوراق الزيتون وابتسامتها المسكوبة في باقات الأمل، بكعب حذائها المتسلق على أهداب الدهشة المصلوبة على النظرات المحملقة فيها...
غابت عني في الزحام ما بين جموع المهنئين بعودتها بعد أن أنهت دراستها الجامعية، وأولئك المتطفلين على وهج نجمة جديدة تضيء بألقها فضاء المكان لأول مرة، وأولئك الغارقين في أحلام عروس المستقبل، تقاذفتها نظرات الأمهات الواقفات على طرقات الفرصة والصدفة بانتظار \"الكنّة الموعودة\" على محطات الكمال، والتهمتها نظرات الفتيات اللواتي تجهّمن في وجهها لمجرد أنها تحبس الأنفاس بعبق حضورها المطعّم بسحر الحنان الباسم في عينيها المشرقتين بسنابل الفرح والحب والأمل والحياة.
كان ذلك اللقاء منذ سنوات، التقيت معها بعدها بضع مرات، ثم حالت الظروف والمسافات والمشاغل والأماكن ما بيننا حتى التقيت بها مرة أخرى بالأمس...
كانت تجلس بجانب طفليها بصمت، مطأطئة الرأس شاحبة الوجه منطفئة العينين ذابلة الشفتين، صامتة واجمة حزينة وحيدة، ترددت كثيرا قبل محاولة إلقاء التحية عليها إلا أن صهيل الذكريات القليلة التي جمعتني بها دفعني بقوة للسلام عليها قبل أن ترحل وتتركني فريسة الليل الأسود المتسربل بالحيرة والدهشة والألم.
طلبت مني أن أجلس معها وأتحدث إليها وهي تنظر نحوي بعينيها المتورمتين رجاء وحزنا وخوفا وقد احترقت سنابل الأمل والسعادة والإصرار بشظايا الحسرة والألم والانكسار في الأهداب المسكونة بالبؤس.
لم نتحدث طويلا لكنني ومع كلماتها الأولى شممت رائحة الحريق المنبعثة من أنفاسها الملتهبة في أتون الضياع والظلم والمرارة والهزيمة والوجع...
فهمت سر الحزن الجاثم على نظراتها الوجلة والعبرات المتهدجة في صوتها المذبوح على أرصفة اليأس...
نظرت نحو طفليها بانكسار إمبراطورية لم تتذوق يوما طعم الهزيمة، عضت على شفتيها وهي تنظر نحوي بدهشة امرأة باغتها الموت في غمرة اعتقادها بأنها ستحيى الدهر إلى الأبد...
لم أتمكن من فعل شيء، عجزت للحظات عن قول كلمة أو إبداء رأي أو تقديم نصيحة أو التفوّه بكلمة مواساة واحدة، كانوا أسرع منا وأمهر وأمكر فتحلّقوا حولنا وقطعوا علينا كل سبل الكلمات والنظرات والعبرات والأحزان ولم يتركوا لنا سوى حبال بسمة واهية مزيفة على نعش واقع مخضّب بالمرار...
ثم جاء هو من بعيد وكأنه من زمان آخر ومكان آخر وكوكب آخر وعمر آخر ونسل آخر...
ابتسم لنا بوجه طفل بريء وبحنان أم رءوم وبلهفة عاشق متيّم وصدق ناسك متعبد، أخبرها أن عليهما الانصراف واعتذر مني وهو يمسك بيدي طفليه وينظر نحوها بأن تتبعه، نظرت في عيني المتآكلتين حيرة وهي تهز رأسها بصمت: \"نعم إنه هو صدقيني...\"
رحلت معه ومعهما وحدها خلفهم وتركتني مكوّمة بين شقوق الدهشة والذهول والوجع المتكئ على رفوف المفاجأة، رحلت وتركتني فريسة أشباح الهذيان المتراشقة في ظلام ليل طويل من الأسئلة الممتدة على ضفاف جرح غائر في خاصرة عمرها المحترق بصمت...