بات واضحاً أن المخطط الصهيوني, لتهويد القدس, وهدم الأقصى, تمهيداً لبناء هيكل سليمان المزعوم, قد دخل مرحلة حاسمة, تتسارع فيها الأحداث, والخطوات التنفيذية من قبل الإسرائيليين الذين يبدو واضحاً انهم مقتنعون, بأن كل الظروف مهيأة لهم لتنفيذ مخططاتهم, في ظل حالة الوهن والاستسلام العربي والإسلامي. بل أكثر من ذلك, فإن بعض الفلسطينيين, وبعض العرب, وبعض المسلمين, لا يخجلون من تجاوز مرحلة الوهن والاستسلام للواقع, إلى مرحلة التعاون مع العدو, وإعانته على تنفيذ مخططاته. ومنها هدم الأقصى, وبناء الهيكل; فها هي الأنباء تنقل عن رئيس وزراء سلطة عباس في رام الله قوله »مالنا ومال القدس? .. فلنهتم بالأمور المالية والإدارية«. وها هي الأنباء تتحدث عن إتجاه سلطة عباس إلى إقامة قوة إسرائيلية - فلسطينية مشتركة, لمواجهة الانتفاضة الثالثة في حالة وقوعها. وللتصدي للمقاومة عندما تنشط. وهو أمر ليس مستغرباً من سلطة اعتادت على مطاردة المقاومين وقتلهم واعتقالهم وتسليمهم للعدو الإسرائيلي أكثر من مرة. فهي سلطة تعتبر المقاومة عبئاً وصواريخها وعملياتها مبعثاً للقرف والاشمئزاز.
عربياً ليس الحال بأفضل. فهي أمة بعضها من بعض. فها هم بعض العرب يشددون الحصار على بعضهم الآخر في فلسطين وغير فلسطين. وها هم بعض العرب يحاكمون بعض أبناء الأمة بتهمة مقاومة العدو, ومناصرة الغزيين وغيرهم من أبناء فلسطين. وها هم بعض العرب يحرضون العدو الإسرائيلي, والعدو الأمريكي, على ضرب هذا الجزء أو ذاك الجزء من مكونات أمتنا. غير آبهين لا بغضب الشعوب ولا بلعنة التاريخ.
في ظل هذه الحالة المخزية ليس غريباً ولا مستغرباً أن تقاتل القدس لوحدها, وان تصمد لوحدها. وهي حالة ليست فردية في تاريخ هذه المدينة المقدسة التي ارتبطت عبر التاريخ بحالة الغلبة عند أمم الأرض كافة, وعند المسلمين على وجه الخصوص. فالقدس في تاريخ المسلمين مقياس لحالتهم; وحدة أو فرقة, قوة أو ضعفاً, هزيمة أو انتصاراً, عزاً أو ذُلاً. فعندما تكون أمتنا في حالة وحدة وقوة وعزة وانتصار تكون القدس في حماهم. وعندما تنعكس الآية تصير القدس إلى غيرهم. فتصمد صابرة مصابرة حتى تعود أمتها إلى وعيها وتسعى لخلاصها.
تكررت هذه الحالة أكثر من مرة في تاريخ أمتنا مع مدينتها المقدسة, التي فيها أولى قبلتيها وثالث مساجدها التي تشد إليها الرحال. ولعل أكثر المرات التي تتطابق صورها مع صورة واقعنا المعاصر هي فترة الحروب الصليبية. التي صار فيها لكل مدينة من مدن الأمة دولة وعلمٌ وجيشٌ. وصارت هذه الدول تتبارى في تقديم الخدمات والعون لأعداء الأمة الذين خاضت خيولهم بدماء أبنائها, حتى وصلت إلى ركب خيولهم التي صار الأقصى اسطبلاً لها, وظل كذلك حتى تنبهت أمته فانطلقت تغيّر وجه التاريخ.
وحتى تتنبه الأمة إلى واقعها وواقع مدينتها المقدسة, لا بد من توفر جملة شروط; لعل في طليعتها ان تعيد للقدس جملة أدوارها الأساسية. فقيمة القدس ليست في حجارتها, وان كانت نفسها حجارة الأقصى. فقد سبق وان انهار الاقصى وأحرق فأعيد بناؤه, وتمت توسعته. لكن قيمة القدس من قدسيتها, ومن انها الأرض التي باركها الله وبارك ما حولها. وأمر رسولنا أمته بالمرابطة فيها وفي أكنافها.
إذاً فالدفاع عن القدس ليس دفاعاً عن حجارة. لكنه دفاعٌ عن عقيدة, القدس واحدة من أهم رموزها, ومن أقدس مقدساتها. لذلك أجمع كل اتباع المذاهب الإسلامية على قدسية القدس ومكانتها. فهي مدينة وحدة وتوحيد للمسلمين. وهو معنى يجب ان نركز عليه في خطابنا عن القدس وحولها. فوحدة الأمة شرط من شروط تحرير القدس. وتوحيد الأمة حول القدس من الأدوار الأساسية التي لعبتها المدينة في تاريخ الأمة. وقد آن لنا ان نؤكد على هذا الدور في خطابنا.
غير الوحدة ودور القدس في بنائها, فقد لعبت القدس أيضاً دوراً مركزياً آخر في تاريخ أمتنا وهو دورها في بناء وعي الأمة, من خلال علمائها ومدارسها وربطها وزواياها ومكتباتها. وهو دور يجب ان نعيده للقدس من خلال دعم علماء القدس ومن خلال عودة من كان منهم في الخارج. ومن خلال إحياء حلقات الدرس والوعظ في الأقصى. وفي كل مساجد القدس. ومن خلال إثراء مكتباتها وإحياء زواياها وربطها. ونقل كل ما يجري في هذه المعالم من أنشطة عبر رسائل الاتصال لتكون الأمة كل الأمة شريكة في معركة الوعي للقدس, وحول القدس ومن القدس وإلى القدس.
وفي إطار بناء الوعي الذي نتحدث عنه, لا بد من ان نعيد للقدس دوراً آخر, لعبته في تاريخ أمتنا. أعني به دور التحريض. فقد كانت القدس خاصة في فترة الحروب الصليبية عنصر تحريض للأمة لتوحيد صفوفها من أجل تحرير مدينتها المقدسة. ولعلنا جميعاً نذكر قصة منبر نور الدين الذي ظل ينتقل من حاضرة إلى أخرى من حواضر الأمة, مذكراً بالمسجد الأقصى, إلى ان تمكن صلاح الدين من وضعه في المسجد الأقصى بعد تحريره. وهذا الدور التحريضي لا بد من أن يكون عنصراً أساسياً من عناصر خطاب علمائنا ومفكرينا من أجل القدس. إسهاماً منهم في بناء وعي الأمة. واستنهاض همم أبنائها حول القدس وفريضة تحريرها عبر إحياء روح المقاومة لديهم وهي المقاومة التي لعبت القدس دوراً مميزاً في إذكائها وقيادتها. وهو دور مميز آخر للقدس لا بد من إحيائه على طريق الجهاد من أجل تحريرها وهو التحرير الذي لن يتم إذا تركناها تقاتل لوحدها كما هو شأنها الآن.
وحتى لا تظل القدس وحدها, فإن علينا أولاً أن نتذكر ان الجهاد صار فرض عين على كل مسلم ومسلمة. وهذا يعني ان العمل من أجل تحرير القدس صار مسؤولية فردية تقع على كاهل كل مسلم ومسلمة. وهذا يعني ان معركة القدس, هي معركة الأمة كل الأمة بكل فئاتها. فلم يعد مقبولاً التذرع بمواقف النظام الرسمي في بلاد المسلمين, لأن ذلك لا يسقط فرض الواجب عن المسلم. فقد صار من واجب الشعوب الإسلامية ان تتصدي لأداء واجبها نحو قبلتها الأولى ومسجدها الثالث. وأول ذلك أن تكسر مؤامرة الصمت حول القدس وان تسعى للأخذ بكل الأسباب التي تؤدي إلى تحرير الأقصى. وان طالت الطريق وعظمت التضحيات. وهذا يستدعي أيضاً ان نرفع سقف عملنا من أجل القدس من مجرد الاستنكار اللفظي إلى العمل الجاد المخلص. حتى نخلص من مقت خالقنا الذي يمقت الذين يقولون ما لا يفعلون, فكيف إذا كان الفعل من أجل القدس. التي تقاتل وحدها ونقبل نحن الجلوس في مقاعد المتفرجين أو اللطامين في أحسن الأحوال.