لعلنا نأخذ دائما العبر والدروس من نهج من سبقونا في العلم والمعرفة من أبناء امتنا فكان لهم صوراً مشرفة وأفكاراً قيمة ننهل منها أجمل معاني الوفاء ولانتماء .. عرفوا كيف يتعاملوا مع واقعهم .. فارتقوا إلى مستوى عال في المنطق البشري .. ما جعلهم مفكرين كبار .. نكبر بهم وترقى بفكرهم ليكون لنا نبراس خير وبركة نسعى من خلاله إلى الرفعة والمنعة والتطور والحياة الفضلى .
لقد استوقفتني أثناء قراءتي لحياة شاعر النيل وشاعر الشعب حافظ إبراهيم حادثة ظريفة تذكرنا بحكمة من سبقونا .. فمن المعروف إن شاعرنا كان مشهور عنه بالمواقف الظريفة الممزوجة بالحكمة .. لكنه عرف بكثرة مشاغله .. فقد طلب منه أحد البسطاء ذات مرة أن يقرأ له رسالة .. وكان مشغولاً .. ولم يهتم بطلب ذلك الرجل أو أن اهتمامه بما كان بين يديه حينها .. دفعة للاعتذار فقال لذلك الرجل : أنا لا أعرف القراءة.. فنظر إليه الرجل وقال: تلبس طربوشًا ولا تقرأ ؟ فما كان من حافظ إبراهيم إلا أن وضع الطربوش على رأس الرجل وقال له اقرأ أنت ! فأحس الرجل بالإحراج لأنه لم يقرأ طبعًا .. ولم يجد ما يرد به على شاعرنا.. ولكنه فهم أن الطربوش ليس دليلاً على أن صاحبه متعلم.. والموقف يعبر عن مشكلة تتعلق بخداع المظاهر وتناقضها..
ففي ما نحن فيه ..مجال التربية والتعليم .. نأمل أن نستطيع التعامل مع كل المواقف بكل همة وكياسة ومسؤولية .. ونتمنى في كل من يقف أمام الطلبة أن تكون لديه القدرة على تعليمهم.. وأن يتحمل مسؤولية إعداد جيل الغد ليساير ركب تطور المجتمعات .. وتحمل رسالة الأنبياء والرسل ..وندعوه ألا يضن على أدائها بغال ولا رخيص .. وأن يتغلب على كل عقبة تحول دون بلوغ غايته.. ونطالبه بنقاء السيرة وطهارة السريرة والحفاظ على مهنته والارتقاء بها .. فهل هو كذلك ؟
إنك حين تسأل عن واقع المعلمين في حاضرنا .. فسوف تجد اتهامًا لهم بالتقصير أو التقاعس .. وغرقًا في الإحباطات وزهدًا في أدوارهم واستصغارًا من أولياء الأمور والمتعلمين .. وتطاولاً على مهنتهم ومكانتهم.. وسوف تدرك كم أصبح الأبناء بمختلف فئاتهم العمرية وفي مراحل التعليم المختلفة يكرهون العلم والتعليم والمعلمين .. لا لأنهم اجتهدوا وفشلوا أو جدوا ولم يجدوا.. ولكن لأن أفكارهم أصبحت تدعو إلى اللامبالاة .. فمن زرع فيهم تلك المفاهيم ؟ .. فالحياة العصرية أصبحت مليئة بالتغيرات السريعة في مختلف الميادين.. تلك التغيرات لا تدع فرصة لوضع سياسات تعليمية مستقرة..ولا تترك فرصة للمتعلمين لأن يجنوا ثمار تعليمهم.. وهي تنتقص - بشكل مستمر- من مستوى تأهيل المعلمين وتسفه مهاراتهم ومعلوماتهم.. وتعقد ظروف عملهم.. أو حتى ظروف معيشتهم.. نتيجة ما فرضته التطورات العالمية من تحديات على العملية التعليمية.. وما ترتب على ذلك من زيادة في والأعباء والمسؤوليات.
إن المعلمين - في عصرنا هذا – يواجهون أوقاتاً صعبة.. وطبيعة متغيرة في عملهم وبسرعة كبيرة.. وللمفارقة فإن هناك اتساقاً كبيرًا في هذا التغير على مستوى العالم كله.. وبشكل لم يشهده تاريخ التعليم من قبل.. كما وأن عمل المعلمين أصبح موضع تقييم ونقد وهجوم مستمر.. وكلما ظهرت شكوى أو ضعف في أي جانب من جوانب العملية التعليمية ألصق السبب بالمعلم وأدائه وعمله.. وفي ضوء ذلك يتم إعادة النظر في معايير أداء المعلمين وشروط اعتمادهم وأهداف ومحتوى برامج إعدادهم وتدريبهم وإعادة تأهيلهم.. ومتطلبات سوق العمل ومعايير الاحتراف المهني ومواصفات الخريجين .
إن التطور المذهل والسريع في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات انعكس على تطوير مهنة التعليم وعمل المعلمين من خلال المطالبة بإعادة تأهيلهم ليصبحوا قادرين على توظيف هذه التقنيات في العملية التعليمية .. وبحيث لا يصبح المعلم ناقلاً للمعرفة بقدر ما يصبح ميسرًا للحصول عليها من مصادرها المتعددة.. ولكن ما هو مدى اقتناع المعلمين بذلك ؟.. وما جدوى ما تم إنفاقه على تأهيلهم ؟
فالواقع يقول إن هناك عزوف وسلبية - لا تنكرها عين - من بعض المعلمين .. والانشغال بأمور أخرى أهمها الجري وراء مزيد من المكاسب المادية..و لا يزال بعضهم يحتفظون لأنفسهم بمساحة من الجدل حول ما يقومون به ويؤدونه داخل الغرف الصفية .. وما تمت دراسته من نظريات التعلم وأصول التربية وطرائقها.
إننا وفي مسعانا إلى الارتقاء بمهنتنا التي أحببنا .. لنحاول أن نشخص أهم العوامل والمشكلات الحرجة التي تهدد المستقبل المهني والاجتماعي لهذه المهنة .
من هنا لا بد لنا أن ندخل إلى حياة العمل المعقدة للمعلمين والتي ما زالت محدودة جدًا بكل المقاييس.. ومدى امتلاكنا للمصادر الضرورية لإجراء الدراسات الانثوجرافية المفصلة حول أوضاعهم وتوزيعهم وتنوع تخصصاتهم وثراء أو فقر مستوياتهم المهنية وطبيعة أنشطتهم التدريسية ومستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية ومدى تفرغهم للعمل التعليمي.
ولا بد لنا من أن نعرج على برامج إعداد المعلمين التي ما زالت تحرص على ضرورة إعداد وتأهيل المعلمين بحيث يمتلكون ذخائر المعرفة بكافة فروعها التي ترى أنها مطلوبة وضرورية لكي نخرج معلمًا متمكنًا وفعالاً.. مما يؤدي إلى خلق مشكلة حقيقية.. لأن هذا الحرص الزائد على كم المعرفة - دون الكيف - في برامج الإعداد كان سببًا رئيسًا فيما آل إليه فهم المعلم للعلوم التربوية.. فأصبح يرى أنها علوم تسيطر عليها اللفظية والكلام النظري أكثر من التطبيق والإجرائية.
أما فيما يتعلق بالطرق والأساليب المتكلفة والمحدودة الرؤية التي تربط بين التعليم والنمو الاقتصادي.. والتي تعتبر التعليم قاطرة النمو الاقتصادي.. فليس الخطأ في الفكرة .. ولكن في سبيل الدعوة إليها وإقناع المعلمين بها.. فإن انتشار هذه الدعايات وترديدها في الأوساط التربوية - دون إدراك كامل لمعناها - كان أحد أسباب تفكير أولياء الأمور والمعلمين أنفسهم في حقيقة الدافع وراء التعليم .. ولماذا يعدون طلابهم !! .. فربطوا بين ذلك وبين تقدير بعض التخصصات وبعض المواد الدراسية وإهمال للأخرى منها .. فانتقلت هذه الأفكار إلى الطلبة .. فأصبح التعليم مرادفًا للحصول على دخل مادي معين.. وأصبح التفوق يعني الحصول على مجموع مرتفع يمكن الطالب من الالتحاق بتخصصات معينة دون غيرها ليعمل في مهنة ذات عائد مادي عال .. فكانت هي الغاية من التعليم في أذهان كثير من المعلمين ومعظم أولياء الأمور والطلاب على حد سواء .
هذه النظرة المادية البحتة للتعليم نتج عنها جحود مجتمعي لأهميته ولأدوار المعلمين وإنجازاتهم التي باتت مخفية وهامدة بشكل غير مقصود في بعض الأحيان .. وبشكل مقصود في البعض الآخر.. نتيجة غياب تحديد دقيق لطبيعة أدوار ومهارات وكفايات المعلمين وغياب القدرة على مراجعتها والاستمرار في بنائها وتطويرها. كما أدت هذه النظرة إلى رفض الصورة الاجتماعية الموروثة عن المعلمين ومكانتهم في الأوساط الشعبية وفي الأوساط العلمية أيضًا .
لذلك تطلب منا هذا أن ننظر إلى مهنة التعليم على أنها عمل له مواصفات ومعايير خاصة به..مع مراعاة طبيعته المتغيرة تبعًا لتغير ظروف العمل داخل كل مدرسة.. فبوجود هذه المعايير قد يخفف من حدة بعض المشكلات التي تحدث في المدرسة ويقدم لها حلولاً تقنية أو كمية أو إدارية.
أن الهدف الرئيس الذي يعمل تحت ظله المعلمون هو تحقيق المطلب المجتمعي في تخريج منتج تعليمي جيد..ومع ذلك فنحن لا نساعد المعلمين على تحقيق هذا المطلب.. فهم يتعاملون مع أعداد كبيرة من الطلاب داخل الحجرة الصفية الواحدة .. مما يشكل عبءً تدريسياً كبيراً عليهم.. فكل هذه الظروف تجعلنا نرى تناقضًا بين ما نسعى إليه وبين الواقع.. هذا بالإضافة إلى أننا شحنا عقول المعلمين بمزيد من الروتين وكثير من عادات العمل السلبية مثل : الشكلية والإتباع الصارم للتعليمات .. والالتزام بتنفيذ خطة تدريس المقرر من حيث الانتهاء من عدد من الدروس في وقت معين وبتتابع معين.. بغض النظر عن أي اعتبار لقدرات الطلبة أو رغباتهم.. فكان لذلك تأثيراته التي أكسبت المعلمين سمات معينة أصبحت معروفة ومنتشرة.. وأبعدتهم عن التفكير في التجديد والابتكار.. وجعلتهم يفكرون على أنهم موظفون في القطاع العام التابع للدولة كغيرهم من باقي موظفي ذلك القطاع.. يؤدون عملاً روتينيًا مطلوباً منهم .. وأصبح الحديث عن التنمية المهنية للمعلمين - في ظل كل القيود السابقة - حديثًا دعائيًا .. فأصبح الكثير منهم ينظر إلى الجهود المبذولة والدورات والبرامج المقدمة على أنها فرصة للابتعاد قليلاً عن جو المدرسة وأخذ قسط من الراحة.. ولذلك فإن معظم البرامج التدريبية لا تأتي بمردود يتناسب مع أهدافها ولكنها محسوبة كخطط تطويرية ولكن واقعها الملموس لا يسمن ولا يغني من جوع .
إننا بحاجة ضرورية لدراسة جديدة لطبيعة عمل المعلمين في ظل رؤية واضحة للطبيعة المتغيرة لسوق العمل بما يمكننا من تقييم أوضاعهم والتحليل والربط بين ثلاث قضايا متشابكة.. تتعلق الأولى بتاريخ وسير المعلمين وحياتهم..والثانية بدراسة حياتهم الأكاديمية والعملية .. والعوامل الأكثر تأثيرًا في أدائهم..
إن وصف وتشخيص التدريس بوصفه شكلاً من أشكال العمل يثير الكثير من التساؤلات حول أوضاع المعلمين كموظفين رسميين .. عملهم كعمل أي موظف في أي دائرة حكومية أخرى بغض النظر حول الطريقة التي يعملون بها ومقدار الجهد المبذول .فهل نحن بحاجة إلى إعادة غربلة هذه الوظيفة وتصنيفها وفق معايير ترقى بالمعلم مهنيا وأكاديميا ؟
دعونا نطرح أفكاراً منطقية علنا نجد الكثير منها وضمن استراتيجيات قد سبق وطرحت في كثير من دول العالم لتحسين أوضاع المعلمين.. لعل أبرزها تلك التي تتعلق بتحسين أوضاع المعلمين الاقتصادية..خاصة في ظل ارتباط المكانة الاجتماعية ومسألة الاحترام والتقدير الاجتماعي للمهنة بمقدار ما يكسبه صاحبها من مال وثروة.. ففي نظرتنا المادية كمجتمعات شرقية أصبح الاحترام والتقدير فيها للأغنياء وأصحاب الثروات.. ولما كان المعلمون من الناس الأقل إيرادًا ماليًا فإنهم ولاشك سيكونون الأقل احترامًا وتقديرًا من قبل أفراد المجتمع .. حتى وإن كان هذا الوضع مغايرًا لمنطق الأشياء.. لذلك لا بد من أخذ جملة من الاعتبارات عند وضع إستراتيجية لتحسين أوضاع المعلمين الاقتصادية.. والتي تدفعنا إلى تحديد من هم المعلمون في المجتمع ؟ ولماذا يصر البعض على العمل في هذه المهنة ؟ إذا كانوا يتقاضون أجورًا أقل !! .. وهل إقبال النساء أصبح أكثر على العمل في التعليم من الرجال ؟ وهل أصبح العمل في المدارس واجهة فقط تخفي خلفها دوافع أخرى كالدروس الخصوصية أو العمل في قطاعات أخرى ؟ أم أن الدافع للالتحاق بمهنة التعليم كونها أكثر مرونة من غيرها من حيث ساعات العمل والالتزام بالدوام ؟ وهل أن راتب المعلم لم يعد كل دخله ؟ أم انه يمتلك مصادر أخرى للدخل ؟ وهل يجب أن تنطلق في مقارنة أجور ومكافآت المعلمين بنظرائهم في سوق العمل في القطاعين العام والخاص.. وعند إجراء تلك المقارنة .. فهل من الضرورة بمكان أخذ ساعات العمل وطبيعة الجهد المبذول في الاعتبار..
نحن ندرك تماما حجم المسؤولية الملقاة على كاهل الدولة الأردنية خاصة في ظل هذه الظروف الصعبة التي يعيشها العالم بأسره جراء الأزمة الاقتصادية العالمية .. ونعي تماما أننا أصحاب هذه الأرض .. وهذا الوطن .. وأننا وحدنا من يتحمل مسؤولية ذلك .. وما هي إلا أزمة وستنقضي بإذنه تعالى .. وسنخرج منها جميعا بكل عزيمة وهمة ومسؤولية .. وسيكون الوضع العام تجاه مهنة التعليم من قبل الحكومات المتعاقبة على أفضل حال بل سيرقى إلى طموح وأمال الجميع
فهذا مطلب ملكي سامي كان قد أكد عليه جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين مرارا وتكرارا .
أنا أعتقد أن المسؤولية جماعية ومشتركة في ضرورة إبراز دور المعلم على كل المستويات .. لعل أهمها الدور الإعلامي الذي يجب أن يكون دورا مميزا في تجنيد الطاقات الإعلامية لامتداح المعلمين وإعلاء شأنهم وإجراء المقابلات معهم.. وإشراكهم في الندوات والحلقات المتلفزة والحوارات التي تهم المجتمع وتزيد من التوعية بأهمية دورهم الطليعي فيا بناء هذا النسيج الاجتماعي ..
كما وأننا بحاجة ماسة إلى بناء اتجاهات إيجابية لدى المعلمين نحو دورهم كقادة تربويين صانعين للتغيير.. وساعين إلى تجويد التعليم بالابتعاد عن ممارسة التعليم بأساليب تقليدية.. والأخذ بأيديهم إلى أعلى درجات التحصيل والتفوق والإبداع العلمي والأدبي.. ليعملوا جميعاً على الارتقاء بأنفسهم والحفاظ على كبريائهم والفخار بكيانهم والعمل على مواجهة التحديات والمعيقات أمام ذلك .. بأسلوب حضاري راق ..بحيث يُحفظ للمهنة هيبتها وكرامتها .
إن توجيهات جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين والتي تدعم المعلمين باعتبارهم أساس العملية التعليمية ومحورها لهي تأكيد على التوجه لتحسين ظروفهم المعيشية وتوفير السكن الكريم لهم ولعائلاتهم وكذلك تحسين دخولهم .. وتوفير كل الظروف التي تساعدهم على تأدية رسالتهم وتقديم كل ما تسمح به الإمكانيات بما ينسجم واحتياجاتهم .
إن التوجهات الملكية السامية تجاه المعلمين لهي مكرمات رائدة تستحق التقدير فلقد عملت جلالة الملكة رانيا العبد الله على إطلاق جائزة سنوية للمعلم بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم ... بهدف وضع معايير وطنية للتميز في التعليم..والاحتفال بالذين يحققون التميز وتشجيعهم وتكريمهم
وتبقى شروط النجاح بالأخذ بالاعتبارات السابقة معتمدة على وجود دعم قوي من جميع الأطراف .. وللموضوع بقية
وفقنا الله لخدمة وطننا ومليكنا ومهنتنا التي أحببنا
جميع الحقوق محفوظة
الكاتب : فيصل تايه
البريد الالكتروني : Fsltyh@yahoo.com