سررت عندما دعتني إحدى صديقاتي لتناول وجبة العشاء معها في منزلها، وسررت أكثر عندما أخبرتني أنها ستعد طبقا من اللازانيا الإيطالية التي أحبها كثيرا بالرغم من أنني أتناولها نادرا وفي المناسبات الخاصة فقط.
كان مساء صاخبا بشتائه الشرس الذي انقض فجأة منتهزا فرصة استلقاء قرص الشمس في مهد الغروب، باغتتنا الأمطار الراقصة في ساحات الرياح الباردة، كما اكتظ منزل صديقتي بالصديقات وبأصوات الأطفال وصراخهم وهم يلعبون تارة ويتشاجرون تارة أخرى.
كنت سعيدة وأنا أرى طبق اللازانيا الكبير المغطى بالباشميل يتوسط مائدة الطعام، وازدادت سعادتي توهجا وابتسامتي اتساعا عندما حصلت على قطعة كبيرة من اللازانيا التي بدت أنها مطهوّة بمهارة عالية ومتماسكة بشكل كبير، بالفعل كانت أنيقة في مظهرها وشهية في مذاقها.
إلا أن امرأة مثلي مكوّمة على رفوف الحلم، معلّقة على شهب الذاكرة ومنسية على ضفاف الوجع لم تتمكن من الاستمتاع بما لذ وطاب من الأحاديث والأطعمة، أخذت أحملق في شرائح اللازانيا المغطاة بطبقات من صلصة الطماطم باللحم المفروم المغلّفة بطبقة خارجية جميلة من الباشميل، ولا أعلم ما الذي جعلني أرى في طبقاتها شرائح الشعب المطحون الرازح تحت كلاكل الفقر والجوع والقهر والاستغلال، القابع تحت سطوة وسلطة طبقة الباشميل التي لا تصلح بمفردها أن تؤكل ولا تمثل كطبقة وحيدة أي قيمة غذائية حقيقية ولا يمكن أن تقدم كطبق رئيسي أو حتى جانبي إلا إذا ما كانت تغلف طبقات أخرى من اللازانيا أو المعكرونة أو الخضروات التي تشكل في حقيقة الأمر القيمة الغذائية الحقيقية والطعم الغالب على الطبق والسواد الأعظم من الشعب.
أحزنتني شريحة اللازانيا السفلى الكادحة بصمت والمتفانية في حمل ثقل كل طبقات المجتمع الأخرى على أكتفاها دون أن يلتفت أحد إلى عملها العظيم ودورها الحيوي في الحفاظ على المجتمع وتماسكه، ذكرتني بعمّال النظافة وعمّال المصانع وصغار الموظفين، أما الطبقة التي تعلوها فهي كأولئك الذين نعلم بوجودهم ونقدّر أهميتهم إلا أننا قليل ما نشكرهم أو نشعرهم بأنهم مهمون في حياتنا كالأمهات والآباء والمعلمات والمعلمين.
توالت الطبقات وتراشقت فئات المجتمع من كل حدب وصوب وهم ينوءون بحمل أعباء كيان هذا المجتمع وقوامه ليشكلوا طعمه الطازج ورائحته الزكية ولبنات بنائه وخطوات مسيرته وعبق تاريخه ومفاتيح مستقبله، وكلهم منهمكون في حمل طبقة الباشميل المرفّهة على ظهورهم والراقدة على رقابهم، ومنهكون من أجل وطن لا يطفو على سطحه سوى طبقة رقيقة من الباشميل المنعّم المتخم المدلل والذي لا يعرف حقيقة الجهد والدماء والعرق الذي تبذله بقية الطبقات والشرائح من تحته.
فجأة أحسست بحقد تاريخي عميق نحو طبقة الباشميل السطحية التي تزين طبقا لا تأبه بتاتا بمكوّناته وحجم معاناته، ولا تبالي بمطالبه وحقوقه وعلب أحلامه الصغيرة وهي ممدة تستحم بأشعة الترف والبذخ والفساد، وجدتني رغما عني أمسك بالسكين وأجتث الباشميل الجاثم على آلام وأحزان ومتاعب الطبقات والشرائح التي أنهكتها المعاناة اليومية في سبيل ملء بطون وجيوب الباشميل الشره المستهتر، شعرت بسعادة غامرة وأنا أشوّه وجهه الأنيق وأمزق أحلامه الكبيرة المستبدة بالاستمرار في السلطة والقيادة والنجومية تحت أضواء المظاهر المزيّفة.
ظنّت صديقتي أنني أتبع حمية غذائية تمنعني من تناول الباشميل وراحت تغريني بطعمها اللذيذ ومذاقها الشهي، وأنا أزداد عنفا في محاولة قلب قطعة اللازانيا ودهس طبقة الباشميل تحت أقدام شرائح العجين والصلصة واللحم المفروم، وأبو القاسم الشابي يثور في طبقي مغردا: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر!