ثمة ما يدعو الإنسان للتفكير في "التطوير"، خصوصاً في مجاله الحيوي الذي يعمل فيه. ولعل تجربة التدريس في الجامعة الأردنية – على تواضعها- أتاحت لي التعرض، عن قربٍ، لجزء كبيرٍ من واقع التعليم العالي في الأردن، الذي يواجه حالياً جملةً من التحديات التي تُهدد نوعيّة مخرجاته (الإنسان)، أهم موارد الأردن وثرواته، فالإنسان الأردني كان وسيظل حجر الزاوية في أية نهضة يعيشها بلدنا أو سيصل إليها.
وإنني أرى أن الجامعة الأردنية والتعليم العالي عموماً، حقق إنجازاتٍ وتقدم لا يُمكن لمنصف أن ينكرهما، إلا أن الصورة بعدُ لم تكتمل، وفيها بعض القتامة في ناحيةٍ هنا أو ناحيةٍ هناك. وبالتفكير والعمل والتجديد يمكن معالجة الخلل وتطوير الأداء وتجويد المنتج النهائي للعملية التعليمية وهو الإنسان بعقله وضميره وقدرته على الإبداع.
وإنني أضع هنا بعض الأفكار التي أتمنى أن تجدَ صدىً لها لدى الزملاء المهتمين، وأصحاب القرار، بحثاً وتمحيصاً وأخذاً بالصالح منها والمفيد، ولا أدعي فيها التفرّدَ أو الابتكار، ولي - في نقص البشر عن الكمال- عذري إن أنا بالغتُ أو أجتهدتُ خطأً، رغم اعترافي مقدماً بأنني لستُ مطلعاً بما يكفي على كل التدخلات الخاصة بالتعليم العالي. واعتذاري ممَنْ هم أكبرُ مني علماً وقدراً، إن أنا أبديت رأياً أختلف فيه معهم فهذا اجتهادي واللهُ أعلم.
يُشير الإحتكاك المباشر مع الطلبة في الجامعة إلى تراجعٍ حادٍ في مستوى التعليم في مرحلة ما قبل الجامعة. ونقصٍ فادحٍ في المهارات والقدرات والنضوج. فمن غير المفهوم أن يصل الطالب إلى مرحلة الدراسة الجامعية فيما هو يُعاني من عجزٍ في الكتابة الصحيحة بلغته الأم، فضلاُ عن الضعف العام في القدرة على التعبير الكتابي والشفوي. وهو أمرٌ يضاعفُ المسؤولية الملقاة على الجامعة، ويهدد بفشل التعليم العالي لضعف مخرجات التعليم في مرحلة ما قبل الجامعة. ولا بد من الوقوف طويلاً وبحث الأمر بالتشارك مع وزارة التربية والتعليم.
وأقترح لهذا أن يتم إعادة النظر بامتحان الثانوية العامة، وعمل امتحان قبول للجامعة يكون المعيار في قبول الطالب في الجامعة من عدمه، فعلى سبيل المثال، من غير الممكن قبول طالب في كلية الحقوق لا يتقن الإملاء وقراءة النصوص مُشَكّلةً.
بفوراق طفيفة، فإن أعداد الطلبة في الشعبة الواحدة يترواح بين 40 – 80 طالب. وقد يصل العدد أحيانا إلى 100 أو 120 طالب وطالبة. وهذا العدد الكبير لا يسمح للمدرّس بإثارة أفكارٍ وإدارة حوارٍ معمّق حول هذه الأفكار. ولتلافي هذه المشكلة يتعين التحكم بأعداد الطلبة في الشعبة الواحدة في حدود 25 طالب وطالبة كحد أعلى فربما كان ذلك أدعى لتحقق العملية الأكاديمية أهدافها.
رغم الأهمية الحاسمة لدور عضو هيئة التدريس في العملية التعليمية إلا أن العبء الذي ينؤ به أساتذة الجامعات كبير، فالعبء الأكاديمي لعضو هيئة التدريس هو 9 ساعات في حده الأدنى وهذا يعني أنه عليه واجب إعطاء 6 محاضرات اسبوعياً وفق أفضل ترتيب، أما في الوضع الغالب فالعبء الأكاديمي لعضو هيئة التدريس هو 12 ساعة ويتعين عليه اعطاء 8 – 12 محاضرة في الأسبوع الواحد وبمعّدلٍ شهري قد يصل إلى 48 محاضرة ومعدّل فصلي يصل إليه 184 محاضرة فضلاً عن الأعباء الإدارية لكثيرٍ من أعضاء هيئة التدريس. وهو عبء كبير ولا مبرر له أبداً إذا ما سلمّنا بوجوب تطوير أساليب التدريس لتجاوز مرحلة أن يكون دور المدرّس تزويد الطالب بالمعلومات المجردة. وإنني أرى أن الحكمة تقتضي إعادة النظر في جدول المحاضرات الأسبوعي بحيث يتم ترتيب محاضرتين للمادة الواحدة في يومين وبواقع ثلاث ساعات أسبوعياً، عندها ستكون مدة جميع المحاضرات ساعة ونصف، مما يُمكن المدّرس والطالب من البحث والتحضير الجيّد للمادة العلمية ويكون الوقت كافياً للبحث والحوار بعمق في الأفكار أثناء المحاضرة. ويتسنى لعضو هيئة التدريس التفرغ في أحد أيام الأسبوع للبحث العلمي ومتابعة الجديد في مجال تخصصه وتطوير مهاراتٍ جديدة قد يكون راغباً فيها. كما يتسنى للطالب متابعة واجباته، والمطالعة والتحضير والبحث والقيام بنشاطات غير منهجية في هذا اليوم. فضلاً عمّا سيوفر ذلك من وقتٍ وجهدٍ ومالٍ ومعالجةٍ لبعض المشكلات المرتبطة بالدوام وفق الآلية الحالية.
والمقصود بذلك تجهيز قاعات الجامعة لتوفير بيئة تدريسية حديثة تشمل تجهيزات "Data show" وتوفير جهاز حاسوب متطور مرتبط بشبكة الإنترنت. فضلاً عن جعل قاعاتة التدريس والمكتبات مكاناً جذّاباً في هيئته وألوانه وديكوراته.
التلقين لن يخلق مبدعين وعلماء، فلا بد من تعليم الطالب وتدريبه على كيفية التعلم واتقان المهارات الخاصة بذلك، بدلاً من حشو دماغه بأفكار صماء سرعان من ينساها بعد استرجاعها عند الامتحان -هذا لمَنْ استطاع ذلك -.
تطبق بعض الجامعات نظام الرموز في منح العلامات، وهو نظامٌ جيّدٌ عموماً، لكنه يعاني من مشكلاتٍ كبيرة جعلته مصدر قلق للمدّرس والطالب، فهو لا يُطبّق بدقةٍ واتقانٍ في أحيانٍ معينة ولا يُنصف الطالب في أحيانٍ أخرى. وهو في ظل المعطيات القائمة يشكو من مشكلاتٍ تجعله غير قادر على إثبات نجاحه.ولذلك أسبابٌ كثيرة ليس هذا محل بحثها. ويتعين والحال كذلك إعادة نظام العلامات الرقمي، أو تطوير وتعديل النظام الحالي، وتدريب أعضاء الهيئة التدريسية على كيفيه تطبيقه. هذا بالإضافة إلى ضرورة تحييد كافة العوامل الشخصية وغير الأكاديمية في تقييم الطلبة. وقد تقدمتُ بمقترحاتٍ للجامعة الأردنية في هذا الصدد آمل أن تكون موضع بحثٍ ودراسة.
لا جِدال في أن رواتب العاملين في مؤسسات التعليم العالي وبشكل خاص أساتذة الجامعات تعاني من تدنٍ كبيرٍ ومقلق، هذا التدني الخطير في رواتب الأكاديمين يؤثر سلباً في قدرتهم على الصمود والعطاء. ""فنفور" أساتذة الجامعات من مهنة التدريس - التي لم تعد تطعم خبزا وفق ما يراه الكثيرون منهم- وتردي الأوضاع الاقتصادية لهم في ظل جمود الرواتب وتدنيها تُساهم كلها في تسربهم من الجامعات، أو بحثهم عن عملٍ آخر يوفر لهم ما يُساعدهم على تحقيق الكفاف فضلاً عن انعكاساته النفسية على أداء بعضهم. وبالتالي فإنني أخشى أن أي حديث عن تطوير التعليم العالي قبل تحسين رواتب اساتذة الجامعات سيبقى حديثاً في الفراغ.