كثيرا ما تمنيت لو يتم اختراع جهاز يجسد ويجسم أحاسيسنا وعواطفنا ومشاعرنا بطريقة محسوسة ملموسة نتلمسها بأصابعنا، ونراها بأعيننا، ونشتمها بأنوفنا؛ فلعلنا بذاك نصل لبعض التفسير لما يكتنفنا من مشاعر وأحاسيس نعجز في كثير من الأحايين إيجاد أسباب منطقية أو واقعية لتدفقها.
حينما نفكر في الوطن: ماهيته؟علاقتنا به؟ عواطفنا المتدفقة تجاهه، أفعالنا المنبثقة نتيجة تلك العواطف، أفكر أنا ما الذي يجعل المرء يعشق وطنه؟؟ يحن لترابه؟ ويشتاق عطر نسيمه؟ ويبكيه ذكرى سمائه؟؟ أليست كلها ذات الأرض والسماء!! وهو هو نفس الهواء الذي نستنشقه نحن أبناء هذه الأرض؟ فما سر هذا التعلق والتمييز لأرض قد نكون ولدنا على أرضها، أو ربما حتى حرمنا من هذا الحق أن يحتضننا تربها لحظة ولادتنا، وربما قد لا تحوي قبرنا؟؟ ومع ذلك تبقى نبضا يسري في وجداننا.. يبث الروح في أجسادنا.. وتلهج عيوننا دمعا حين يلوح ذكرها.
بالأمس فقط تخليت عن فكرة ذاك الجهاز؛ فلم أعد بحاجة لمن يجسم لي تلك العواطف لأتحسسها وأتلمسها فأفهمها.. بالأمس كانت لي جولة في وطن أعشقه.. وتمتد أشعة عشقي لجيرانه، فكل بلاد الشام بلدي وموطني.
رحلتي ابتدأت من الجنوب الأبي.. من الطفيلة الهاشمية.. لم نسلك الطريق الصحراوي المعتاد.. واخترنا طريق الأغوار.. ذاك الذي بهرني حين سرنا فيه أول مرة.. جبال شماء تعانق السماء.. صامتة بجلال.. تنطق بألف حكاية وحكاية سمعتها.. حكايا مجد وعز ونصر.. جبال تلونت فأدهشت وأبهجت.. وطريق يتلوى وينحدر وعينك ترقب مزارع الزيتون في بطن الوادي ترتشف ماء جبالها فتخضر.
فجأة يمد الغور لك راحتيه منبسطا.. تحيط به مزارع موز ونخيل وخضار وفاكهة.. وترى أناسا جهدت أتلمس مشاعرهم ما بين سعادة، واكفهرار، وبؤس وحزن خفي، وفقر. وأطفال ظهر بعضهم عراة حفاة.. فتساءلت: لم؟؟ولم أنتظر جوابا.
هناك في الغور مقام النبي لوط عليه السلام.. تصعد إليه في السيارة مسافة ربع ساعة ثم لابد من الترجل وصعود 320 درجة توصلك للكهف في صدر جبل.
البحر الميت.. ينعشك نسيمه في هذا الوقت من العام؛ فلا صيف حارق، ولا رطوبة خانقة.
البحر الميت كدت أموت جواره وأنا أرى إهمالا لجماله الطبيعي.. أوساخ ونفايات وجذوع أشجار تروح وتجئ مع أمواجه.. أين وزارة السياحة؟؟ وأين تلك الأموال تؤخذ من المواطن والسائح؟؟ أيكفي فقط العناية بجزء يسير من شاطئ البحر الميت؟ شاطئ الأمانة؟؟ وما يدخله السياح الأجانب؟؟
أين الاهتمام بالبيئة ورعايتها؟؟ أعلم أن المسؤولية تقع على عاتق المواطن أيضا؛ الذي يلقي مخلفاته هنا وهناك دون مبالاة أو أدنى اهتمام.. لكنها أيضا مسؤولية وزارة السياحة أن توفر للمواطن بيئة نظيفة واماكن استراحة تحوي أساليب نظافة من حاويات وحمامات.. وهذا الأمر لا يقتصر فقط على البحر الميت، بل يمتد حتى البتراء التي دهشت من رداءة العناية فيها ومستوى القذارة المنتشرة في جنباتها.. وصولا لخليج العقبة.. الذي لا يعد شاطئه في بعض مناطقه إلا مكرهة صحية منفرة.. فهلا أولتنا وزارة السياحة عناية حقيقية مقابل أموال تتدفق من بين أصابع المواطنين والسياح؟؟!! طبعا لا أنصحكم أبدا بزيارة عين الزارة الساخنة على طريق البحر الميت، فالمنظر مؤلم وصادم؛ هو ذاته من إهمال وقلة نظافة، أو بالأحرى عدمها..
المهم.. خلينا نرجع.. مقابل البحر الميت جبال تمتد على طول الطريق وعلى أحدها تقف صخرة ضخمة يقال أنها زوجة سيدنا لوط عليه السلام التي لم تلتزم بالأمر الإلهي بأن يمضوا ولا يلتفتوا خلفهم، ولا ينظروا لعذاب قومهم، لكنها التفتت فنالها من العذاب ما نالهم والله أعلم.
نهايةً، توصلك الطريق لعمان عشقي.. عمان الحياة والحركة الدائبة.. وبيتي..
في اليوم التالي قررنا معانقة عروس الشمال إربد؛ فربيعها غير..
خضرة وحمرة وصفرة وبياض... هذه إربد.. بل كل قرى ومدن الشمال..
ربيع أخضر: عشب وقمح وأشجار يحتضنها تراب أحمر بلون الدم الذي نقدمه فداء لكل ذرة من تراب الوطن.. وأزاهير صفراء وبيضاء تتمايل مع النسيم، عروس بحق.. يحق لها أن تتمايل دلالا ويحق لنا أن نتعشقها.
وامتدت الرحلة حتى موقع معركة اليرموك إطلالة ساحرة، وذكرى نصر غامرة، تنتظر أختا لها؛ فقد طال زمان القيد.
وتمد يدها إليك الطريق فتجد نفسك تنحدر.. وصولا إلى الباقورة المحررة.. وتعترضك الحواجز الأمنية وبكل صدق لا تلقى منهم غير الابتسامة واللطف والرقي في التعامل.. لكنني حرت وتساءلت: لم هذه الحواجز؟؟ وازدادت حيرتي ودهشتي حين وصلنا للباقورة المحررة تلاقينا لوحة كتب عليها: ((منوع الوقوف والتوقف، ممنوع التصوير))
توقفنا مع ذلك... نريد أن نمتع أنظارنا بأرض محررة، فأتتنا مدرعة يطلب منا أحد أفرادها بلطف مغادرة المكان وفعل ذلك مع الجميع. غادرنا على مضض والسؤال يطرق ذهني: لم؟؟ وكيف هي أرضنا ومحررة ولا يسمح لنا بالتوقف فيها وتأملها والتمتع بجمالها؟!!
عدت.. أحمل مشاعري.. وتركت قلبي معلقا هناك.. وروحي لا زالت تصافح أرواح شهداء ومخلصين أفهموني لم نعشق الوطن؟ ولم ترخص الروح فداه؟ ولم هي غصة وحرقة ونار أن تغتصب أرضك أمام ناظريك والصمت يكمم الأفواه.
عدت وأنا أحمل نداء لوزارة السياحة أن تولي أردننا الجميل بعض عناية يستحقها، وتنشره إعلاميا محليا وعالميا؛ فكل ما وصلت إليه من مواقع أثرية وتاريخية كان جهدا واجتهادا شخصيا.
عدت ومعي أمنية باختراع جهاز آخر: ممحاة كبيــــرة تمحو الحدود بيننا.. وتمحو أعداءنا.. وتبيض قلوبنا..
ظلال عدنان العقلة
الأردن