الظروف التي رافقت انشاء امارة شرقي الاردن تركت آثاراً ما زالت حاضرةً بالمشهد الاجتماعي الاردني حتى بعد تحول الاماره لمملكه واحده ذات كيان سياسي يمارس ولايته على جميع المواطنين , ففترات الفراغ التي اعقبت وجود الدوله العثمانيه وغياب سلطتها وطبيعة الحياه ساهمت في بلورة مفاهيم واعراف تطورت زمنياً حتى تم صياغتها في قانون يدعى القانون العشائري والذي تم الغاؤه لاحقاً مع الابقاء على بعض البنود نظراً للاعتراف بالخصوصيه التي ميّزت الحياه العشائريه لقبائل وعائلات شرق الاردن , ومع غياب اغلب المضاهر السلبيه التي شابت حياة السكان وعانوا منها قديماً كالغزوات والثأر واستيفاء الحق بالذات والتنازع المسلح على مناطق الكلأ والماء والتي جاء غيابها كنتيجه منطقيه لبسط الدوله لنفوذها ووممارستها حق الولايه العامه على جميع ارجاء الوطن فانه وللآن لا تزال تقاليد الجلوه تفرض نفسها بقوه وخاصةً في جرائم القتل حين تم الابقاء عليها في قانون العشائر الذي اشرنا اليه سابقاً .
ومن باب الانصاف والحياديه فان تطبيق الجلوه واعراف ( فورة الدم ) كانت ذات نتائج صالحه وفعَّاله في الحياه السكانيه والعشائريه آنذاك نظراً لحداثة مفهوم الدوله لدى العشائر الاصليه وكأمتداد لمسيرة الاعراف الطويله في حياة الناس وانسجامها مع واقعهم المعاشي الذي احتوى نزعات التعصب والقبليه والثأر فضلاً عن مساهماته الملموسه في ابجديات المروءه ومكارم النفس والشجاعه واغاثة الملهوف التي مازالت تعتبر بصمه واضحه تميز الشخصيه الاردنيه وكينونة الوطن .
اليوم نجد انفسنا امام واقع مغاير باغلب تفاصيله عن الحياه السابقه ونجد انفسنا ملزمين بالتخلي عن مفهوم ( الديره ) لنستبدله بمفهوم الوطن الواحد كنتيجه نشأت من طبيعة الحياه السياسيه الجديده التي رافقت مسيرة الدوله حينما اخترنا طواعيةً الانضواء تحت سقف واحد بعقد اجتماعي فطري بين الاردنيين والدوله الاردنيه والذي أسس مداميك الاستقرار وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان , الامر الذي يجعلنا نقرأ الجلوه بعقليه جديده بوصفها نوع من الترحيل الجماعي والقسري يشكل عقاباً جماعياً على تصرف احد الافراد وفي هذا مخالفه صريحه لروح القانون والشريعه الاسلاميه التي تعتبر العقوبه فرديه توقع على ذات المذنب تطبيقاً لقاعدة ( ولا تزر وازرةُ وزر أخرى ) فضلاً عن احداثها لاختلالات في حياة الناس الذين يجدون انفسهم فجاه وبدون ترتيب مسبق مضطرين للرحيل عن مناطق سكناهم وارزاقهم وحياتهم المألوفه كدين يسددونه بالنيابه عن قريبهم القاتل الذي لا يعرفوه ربما وهذا يشكل انتهاكاً واضحاً للعداله.
نحن مدعوون بشكل اساسي لحوار وطني على مستوى الحكومات والافراد لصياغة قانون يوقف جميع اشكال الجلوه او على الاقل يجعلها مرتبطه بشخص القاتل ان سنحت له فرصت الخروج من السجن لاحقاً , واذا اخذنا بالاعتبار ان جميع القبائل البدويه والشرائح السكانيه في الدول العربيه المحيطه بنا تخّلت عن الجلوه واعتادت على ذلك ووجدت في الحياه متسعاً وفي دولة القانون حلاً لما قد يعتريهم من مشاكل بين الافراد فضلاً على ان الجلوه لم تستطع ان تضع حداً لجرائم القتل المستقبليه او التقليل منها فاننا لا نجد فائده ترجى من الابقاء على اعراف الجلوه التي من المفترض ان تذوب امام دولة القانون والقضاء والمؤسسات الكفيله في ارجاع الحق الى صاحبه .
باستقراء معاناة الشيوخ ووجهاء القوم ممن يستضيفون السكان المرّحلين ردحاً من الزمن ويكون عليهم واجب الحمايه والضيافه والانفاق فاننا نجد مبرراً آخر يجعلنا نعيد النظر باعراف الجلوه نظراً لتغير الحياه في السنوات الاخيره فالشيخ وعقيد الربع آنذاك كان يقوم بواجب الاطعام والانفاق على من يطلبون الحمايه عنده وتجد العشيره نفسها مدعوه للمساهمه في واجب الضيافه والحمايه وبأسم شيخها وهذا من التقاليد التي تم اغفالها ووضعوا جميع الثقل والمسؤوليه على عاتق الشيخ وحده في حين نشهد حكايا وقصص واقعيه لشيوخ وجدوا انفسهم ملزمين وبشكل شهري لاعالة سبعون او مائة نفس الى جانب اعالتهم لابناؤهم وليس لهم مصادر دخل يمكن ان تكفيهم مؤونة الناس .