يا حبذا وقفة فوق أطلال أم قيس تحس فيها بلحظة شوق وحنين وقد تمايلت من حولك أزهار السوسن والياسمين وفراشة تطير من هنا تتبعها أخرى من هناك وعصفور خلبه الربيع لبه فاقترب منك وحط مرساه مطمئنا فوق غصن شجرة وقد أنساه جمال الطبيعة كينونته فما عاد يخشى بشرا ولا حجرا وغرد مسبحا لرب البرية ناسيا قسوة مخلوقاته حتى إذا اشبع الكون صدحا وعرف أنه قد سحر الشجر والحجر والبشر نظر إليك وأنت مأسور من جماله وشجاعته ثم لفه الغروب فطار بعيدا باحثا عن أكتان جنسه لينام في حضن الطبيعة الغناء ملتحفا غصن شجرة وجاعلا من غصن آخر له سريرا.
ذاك الربيع تتوق النفس إليه وتهفو. ربيع ما غاب عن الذاكرة حتى بعد أن بَعُد عن العين لأن مسكنه القلب والروح . ربيع يشدو فيه الرعاة ساعة أوبتهم قبيل الغروب وأغنامهم تسابق الطريق شوقا إلى المرعى في الصباح وسعيا إلى المأوى في المساء. ربيع تنادي فيه الأم أولادها ليعودوا إلى البيت فقد حل الظلام ولكنهم يترددون ويتمنعون أملا في أن يسرقوا من الغروب ساعة لعب يضيفونها إلى النهار وقد نظروا إلى الشمس في خيبة أمل بعد أن خذلتهم وغابت خلف الأفق مبكرا وسكن الكون إلا من صرصار أرّقه الشوق فصدح مستمتعا بصوته في زاوية سلسلة أو قريبا من حجر. وعاد الطفل إلى بيته مودعاً صديقه وقد تواعدا على اللقاء في الغد على رأس تل آو سفح جبل اخضر قد زينه رب الطبيعة بكل جمال الكون فما طاب للنفس فراقه ولا ارتاحت إلا بالنوم في أحضانه.
سنوات طويلة مرت وقد اشتاق فيها غريب الدار إلى ربيع الوطن وكل الخوف أن تتحول ذكرياته عن الربيع إلى خيال من الماضي يموت مع الزمن . في كل عام ومع أوبة طائر أبو سعد وهجرته الربيعية في طريق العودة إلى الشمال يشتاق الغريب إلى هجرة مماثلة إلى ربيع نيسان لكي يروي ظمأ عينيه برؤية دحنونة خجلى نبتت خلف حجر أو تفيأت ظلال شجيرة ليطول عمرها بضعة أيام بعيدا عن شمس النهار ولسعة برد الليل.
يشتاق المغترب في غربته إلى تلقيح عينيه برؤية طائر السنونو يعلو في سمائه ولا يريد أن يحط على الأرض وقد بهره جمال الطبيعة من حوله ففضل البقاء في السماء ليكحل عينيه بمنظر يحتاج لبراه ثانية إلى مرور تسعة أشهر جديدة وربيع جديد في عام جديد قد يمتد عمره ليره وقد لا يمتد.
في غربتي اشتاق إلى أن أكون طائر سنونو أو أبو سعد يطير به لفح الربيع ليبدأ رحلته السنوية إلى الوطن. أو نسمة ربيع مسائية مرت فوق الأعشاب فأمالتها ولكنها لم تستطع اقتلاعها لرسوخ جذورها في الأرض. اشتاق إلى حزمة ( جلتون ) أو طوق ياسمين أو حقل قد غطاه البنفسج وسهل قد غطاه الأقحوان بلونيه الأصفر والأبيض تسرح فيه العيون لترى أجمل لوحة رسمتها يد فنان. اشتاق إلى رؤية أسراب الزرزور وقت الغروب وهي تحوم في السماء باحثة عن مكان تبيت فيه إلى الصباح.
في كل عام تسكنني غربة وأمني النفس في العام الذي يليه ولكن الغربة تطول ووجه الوطن يكبر ويكبر حتى يغطي الشمس ويستحوذ على القلب، ففي الوطن كل جبل لوحة وكل سهل لوحة وكل واد لوحة وكل لوحة أجمل من أختها حتى إذا مس الشوق النفس وأرادت أن تستريح وجدت كل الوطن مستراحا من فئة العشرة نجوم.
ذاك وطن دحنونه من دم أبنائه وورده من جمال صباياه وعبيره من عرق الرجال وله يشتاقون وإليه حتى ولو آخر العمر يحجون للطواف في صحرائه وجبله وسهله.