زاد الاردن الاخباري -
التأمل، تقنية الاسترخاء البسيطة التي رأت النور منذ آلاف السنين في الهند، لاتزال حتى يومنا هذا ملاذاًَ للملايين الذين يجدون فيها وسيلة طبيعية لمكافحة سلسلة من المشاكل النفسية والجسدية.
منذ أواسط السبعينات، عندما اكتشف المتخصص الأميركي في أمراض القلب الدكتور هيربرت بينسون أن ممارسة التأمل يمكن أن تفرز تغيّرات فيزيولوجية كبيرة، جاءت عشرات الدراسات لتؤكد اكتشافه هذا. فالتأمل يخفف من حدة العوارض الرئيسية الناتجة عن القلق، بدءاً بتشنجات العضلات وانتهاء بارتفاع ضغط الدم، مروراً بتسارع ضربات القلب، وارتفاع مستويات هورمون التوتر، الكورتيزول. وكانت الأبحاث، التي نشرتها مجلة "رابطة طب القلب الأميركية"، قد أظهرت مثلاً أنه في الإمكان التخفيف من خطر الإصابة بتصلب الشرايين (الذي قد يؤدّي إلى النوبة القلبية والسكتة الدماغية) عن طريق ممارسة التأمل بانتظام. وكانت دراسات أخرى قد أكدت أن الأشخاص الذين يمارسون التأمل يتمتعون بقدرة أكبر على مقاومة الأمراض والعدوى مقارنة بالآخرين. كذلك تبين أن التأمل يسهم في التخفيف من حدة عوارض الشيخوخة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن نسبة كبيرة من المواظبين على ممارسة التأمل يؤكدون أنهم يشعرون فعلياً بأنهم أصغر من سنهم البيولوجية بخمس سنوات. وتأتي هذه الفوائد الجسدية لتعزز ما كنا نعرفه من فوائد نفسية وذهنية وانفعالية للتأمل. فكل مَن يمارس التأمل يؤكد أنه يساعد على تحسين المزاج ويكافح الاكتئاب ويقوي الثقة بالنفس، ويخفف القلق والأرق والتوتر ويقوي القدرة على مواجهة صعوبات الحياة ومشاكلها.
غير أن الكثيرين لا يقبلون على ممارسة التأمل اعتقاداً منهم بأنه يحتاج إلى سنوات من التدريب والانضباط. لكن الدراسات أظهرت أنه من الممكن تحقيق الكثير من الارتياح والسعادة، بعد مرور أشهر قليلة على ممارسة التأمل لمدة ثلث ساعة في اليوم. ويقول المتخصص الأميركي دانيال غولمان: إن الدماغ يتمتع بقدرة هائلة على التأقلم، ويستجيب بسرعة للتدريب. وإن النتائج الإيجابية التي نلمسها حتى في بداية ممارستنا للتأمل، خاصة على مستوى الهدوء والسكينة والارتياح، كفيلة بتشجيعنا على الاستمرار.
- التأمل.. عادة تسهم في تحسين نوعية حياتنا:
كانت الآراء التقليدية الرائجة في أوساط علماء النفس في الماضي، تقول إن الشخص العادي لا يملك إلا قدرة محدودة على التحكم في انفعالاته السلبية. وكان المنادون بهذه النظرية يعطون مثالاً على ذلك، سخط الناس وتعبيرهم عن غضبهم في وسط ازدحام السير، على الرغم من معرفتهم التامة بأن هذا الغضب لن يسرع في حل مشكلة الازدحام. وكانوا يعتقدون أن تقنيات تخفيف التوتر قصيرة الامد، مثل ممارسة الرياضة، يمكن أن تساعد بشكل مؤقت على بث الهدوء في النفوس. أما تغيير طريقة استجابتنا في مواجهة الوضعيات الصعبة أو التحديات، فهو أمر غير ممكن على حد قولهم.
أما اليوم فقد جاءت الأبحاث الحديثة لتقول إن التأمل قد يكون هو الوسيلة الفاعلة لتلافي الغضب وتحقيق الاستقرار على مستوى الانفعالات. وكانت دراسة مهمة أجريت في جامعة ويسكنسون الأميركية قد أكدت وجود زيادة ملحوظة في نشاط المنطقة الدماغية المسؤولة عن الإحساس بالسعادة والارتياح، وذلك لدى المشاركين الذين كانوا يمارسون التأمل لمدة نصف ساعة يومياً لمدة شهرين. كذلك فقد أقر هؤلاء أن ممارستهم التأمل عززت شعورهم بالرضا في عملهم، وخففت إحساسهم بالتوتر والقلق، وطردت الأرق من حياتهم. إضافة إلى ذلك لاحظ هؤلاء تراجعاً في تواتر إصابتهم بالعدوى والاضطرابات الصحية والأمراض. ويعزو المتخصصون ذلك إلى الدور الإيجابي الذي يلعبه التأمل في تعزيز الجهاز المناعي (وهو نتيجة متوقعة لانخفاض مستويات هورمونات التوتر في الجسم).
أما الأبحاث في جامعة كاليفورنيا، فقد أظهرت من جهتها أن المتمرسين في التأمل، مثل الرهبان في التيبت، يتمكنون من الحفاظ على هدوئهم واستقرار مزاجهم مهما كانت الظروف، وهو أمر كان الطب الغربي يستبعده في الماضي. واللافت لدى الرهبان المذكورين، أنه إضافة إلى قدرتهم الاستثنائية على التمسك بالهدوء ورباطة الجأش، فإنه من المستحيل تقريباً إجفالهم. ففي التجارب التي أخضعوا لها، لم يكن الواحد منهم يطرف عينيه حتى عندما كان يعرضه البحاثة (من دون سابق إنذار) لأصوات ضجيج عالية.
- تغيير المزاج الانفعالي:
قد يكمن سر التأمل في قدرته على إحداث تغييرات في مراكز الأنشطة الدماغية المتعلقة بالانفعالات اليومية. ويقول البروفيسور ريتشارد دافيدسون، مدير مختبر العلوم العصبية الانفعالية في جامعة ويسكنسون الأميركية: إنه عندما تنتابنا مشاعر سلبية، مثل الغضب أو الخوف، فإن النشاط الدماغي يتركز حينها في قشرة الدماغية الجبهية اليسرى. الواقع أن النسبة القائمة بين هذه الأنشطة الدماغية اليسرى واليمنى، هي التي تحدد المزاج الانفعالي العام لكل واحد منا. وبعبارة أخرى، إذا كانت هذه النسبة ترجح نحو اليمين عند فرد معين، فهذا يعني أن مزاجه يغلب عليه الحزن والسلبية. وإذا كانت ترجح نحو اليسار، فإن الفرد يميل إلى أن يكون حيوياً وإيجابياً. وفي اعتقاد ريتشارد دافيدسون، فإننا نادراً ما نبتعد كثيراً عن ميلنا أو مزاجنا الانفعالي العام، على الرغم من التغيّرات التي تحصل في حياتنا.
أما الأبحاث الحديثة فتشير إلى أن التأمل يتمتع بقدرة على تغيير هذا المزاج الانفعالي العام، وغالباً ما يتم ذلك في غضون أسابيع قليلة من ممارسته. ولتأكيد هذه النظرية، اشترك دافيدسون مع المتخصص الأميركي البروفيسور جون كاباتزين، مؤسس عيادة تخفيف التوتر في كلية الطب في جامعة ماساتشوستس في إجراء دراسات وأبحاث عدة. مثال على ذلك، قام الاثنان بتعليم طريقة التأمل الذي يركز على اللحظة الحالية، لموظفي إحدى الشركات لمدة 3 ساعات أسبوعياً على امتداد 8 أسابيع. وطلبا من هؤلاء الموظفين أيضاً ممارسة التأمل لمدة 45 دقيقة يومياً عند عودتهم إلى منازلهم. وبعد انتهاء هذه المدة، أظهرت الدراسة ازدياداً كبيراً في النشاط الدماغي الجبهي الأيسر لدى جميع المشاركين، بغض النظر عن نوعية مزاجهم وميلهم الانفعالي الأولي. إضافة إلى ذلك، فقد صرح جميعهم بأنهم يشعرون بتحسن في صحتهم العامة، وبازدياد في مشاعرهم الإيجابية وبتراجع في مستويات التوتر لديهم.
- القدرة على تحسين العلاقات:
إن التأمل يساعد على تعزيز قدرتنا على التركيز، يمكن أن يساعدنا أيضاً على تقوية علاقاتنا مع الآخرين وحتى على تعزيز قدراتنا الذهنية. فخلافاً للاعتقاد الشائع، فإن معظم الناس لا يتمكنون من قراءة انفعالات الآخرين بالدقة نفسها التي يعتقدونها. وكان بول أيكمان، البروفيسور الفخري في علم النفس في جامعة كاليفورنيا الأميركية، قد طوّر اختباراً يقيس مدى قدرة الشخص العادي على تقويم "التعابير المجهرية" أي تلك السريعة وغير الإرادية التي تظهر بسرعة على وجه الإنسان، وتختفي في غضون أجزاء من الثانية. وتبين له أنه حتى الأشخاص الذين نعتقد أنهم ضالعون في فهم الانفعالات البشرية، مثل علماء النفس والمحامين، لم يحققوا نتائج أفضل على هذا الاختبار، مقارنة بالأشخاص العاديين.
أما عندما أخضع أيكمان رهباناً من التيبت لهذا الاختبار، فقد تبين له أنهم يحرزون نتائج باهرة في قراءة هذه الانفعالات على أوجه الناس. ويقول أيكمان: إن القدرة على التعرف إلى مشاعر الآخرين حولنا، خاصة أفراد عائلتنا وأصدقاءنا، وفهم أسباب هذه المشاعر، يساعدنا على تفادي المشاكل الناتجة عن سوء الفهم، ويسنح لنا بتقوية علاقتنا معهم.
أما في ما يتعلق بالذكاء، فإن الدراسات التقليدية كانت تشير إلى أن طاقتنا على التركيز والانتباه محدودة. لكننا نعلم اليوم أن ممارسة التأمل يمكن أن تعزز قدرتنا على تخطي هذه الحدود، وتقوي قدرتنا على التبصر، وتشحذ مواهبنا الإبداعية، وتساعدنا على التركيز على موضوع معين لفترات أطول من الوقت.
- كيفية ممارسة التأمل:
يعلمنا التأمل كيف نحافظ على تركيزنا، وهدوئنا واسترخائنا في اللحظة الحالية، وذلك على الرغم من كل ما يمكن أن تشهده أذهاننا ونفوسنا من أفكار مضطربة وانفعالات سلبية. ومع ممارسة التأمل يصبح في وسعنا أن نقرر تجاهل معظم هذه الانفعالات السلبية، ونستجيب بهدوء وبشكل مناسب لجميع المؤثرات والوضعيات، مهما بلغت درجة صعوبتها.
ولممارسة التأمل لا نحتاج إلى أي معدات خاصة، إذ يكفي إيجاد زاوية هادئة ومريحة نمضي فيها من بين 15 و20 دقيقة. نبدأ بالجلوس وظهرنا مستقيم، ويستحسن أن يكون ذلك على سجادة على الأرض. أما إذا لم نكن معتادين على ذلك، فيمكن أن نجلس على كرسي، شرط ألا نتكئ على مسند الكرسي الخلفي، فهذه الوضعية قد تعوق انسيابية عملية التنفس. ثم يغمض كلّ منا عينيه، ويريح يديه على حجره، ونتنفس بعمق بضع مرات، ونحاول أن نسترخي قدر الإمكان مع كل عملية زفير. وإذا كانت هناك عبارة أو كلمة محددة تجعلنا نشعر بالارتياح وبالهدوء (مثل عبارة "أنعم بالسكينة" أو كلمة "سلام")، يمكننا ترديدها مرات عدة. بعد ذلك علينا توجيه انتباهنا إلى حركة التنفس، الشهيق والزفير. ويعتبر التنفس موضوع التأمل المثالي نظراً إلى كونه متوافراً وحاضراً بشكل دائم. ويقترح بعض المتخصصين تركيز الانتباه على الأحاسيس التي ترافق التنفس في فتحتي الأنف، بينما يقترح آخرون تركيز الانتباه على حركة صعود وهبوط البطن مع حركة التنفس. المهم في الأمر هو اختيار مركز واحد للانتباه والالتزام به طوال فترة التأمل.
وعندما يهيم ذهننا، وهو أمر لا يمكن تجنبه، علينا أن نعيد انتباهنا بلطف، ونركزه مجدداً على حركة التنفس. ومن الضروري أن نتفادى التلاعب بتنفسنا، فلا نحاول جعله أكثر عمقاً أو أكثر سطحية، كذلك لا يجب أن نحاول أن نتوقف عن التفكير. فهناك اعتقاد خاطئ لدى الكثير من المبتدئين في ممارسة التأمل، وهو أن عليهم "تفريغ" أذهانهم خلال فترة التأمل. والواقع أن المطلوب هو ترك الأفكار تناسب بحرية، وعلينا أن نكتفي بالاسترخاء، وبترك الأفكار تأتي وتذهب مع متابعة حركة التنفس.
والأمثل هو تخصيص ثلث ساعة يومياً لممارسة التأمل، وهي مدة مناسبة للاسترخاء وتركيز الانتباه على التنفس. ويقول المتخصصون إن الصباح قبل البدء في العمل، أو المساء الباكر قبل الإحساس بالنعاس، هما أفضل موعدين لممارسة التأمل، غير أن كل موعد آخر يتناسب مع جدول أعمالنا هو جيّد أيضاً. ويمكن لمن لا يتمكن من تخصيص ثلث ساعة كاملة للتأمل أن يوزعها على جلستين تستغرق كل واحدة 10 دقائق، أو حتى أربع جلسات تدوم كل واحدة 5 دقائق. ومع الوقت والتمرس، يصبح في إمكاننا جميعاً أن نمنح أنفسنا جلسات قصيرة من التأمل متى شئنا، وأينما أردنا.
البلاغ