ربما كانت حكاية الطحان البدوي واحدة من أظرف الحكايات التي سمعتها من المرحوم والدي وهي تقول : ان بدويا أراد ان يطحن قمحا لعياله وكانت المطحنة بعيدة جدا عن موقع إقامته ، فعمد الى تحميل شوال قمح على جانب من بعيره ثم وازنه بصخرة ضخمة على الجانب الآخر، فاصبح الحمل ثقيلا ولا يستطيع معه ركوب الجمل ... ولأنه معتاد على مشقة المسير فقد (لكز) جمله وانطلق حيث المطحنة غير آبه لبعد المسافة ....
اثناء المسير التقى البدوي بواحد من فلاسفة الطرقات ، فاستوقفه الفيلسوف ضاحكا وسخر منه قائلا : لماذا أثقلت على بعيرك وحملته صخرة ياهذا ؟ فرد عليه البدوي وقال : لا خيار عندي غير هذه الصخرة أعدل فيها حمل القمح ، وهل لديك رأيا أفضل ؟ قال الفيلسوف: نعم عندي رأي يسعدك ، اذا كان لديك كيسا فارغا ..قال البدوي نعم عندي ..ورد عليه الفيلسوف اذا فالحل سهل (نوّخ الجمل ) وفك الصخرة واقسم القمح بكيسين وحمله على جملك واركب فوقه يحملك .
البدوي راقت له الفكرة ونفذ المشوره بالتمام والكمال وركب جمله بسعادة مطلقة ثم استأنف مسيره لمسافة قصيره وهو يفكر ببراعة الفيلسوف ورأيه الثاقب الذي غاب عنه وقت الضرورة . ومع ذلك لم يطمئن البدوي لرأي عابر السبيل ..وإنما توقف فجأة ونادى على الفيلسوف مستوقفا اياه ثم بادره قائلا : أراك أعلم مني بشأن الدواب ياهذا فأجبني كم جملا لديك ؟ فقال : لا جمال عندي ولو كنت أملك واحدة منها لما ابصرتني اسير على قدماي ..قال البدوي وماذا تملك اذا من (الحلال ) أي الدواب قال الفيلسوف لا أملك شيئا ... وهنا ابتأس البدوي وأناخ جمله وقال: اسمع ياهذا لو كان رأيك حسنا لنفعك انت اولا... بئس مشورتك وبئس الرأي رأيك ... ثم ارجع الوضع لما كان عليه ورد الصخرة لمكانها وقاد الجمل مستأنفا المسير ...
الحكاية ذكرتني بالمعضلة الاقتصادية التي يعاني منها الاردن وكيف اضطرت الأوضاع رئيس الحكومة الحالية الى اتخاذ قرار برفع اسعار المحروقات وهو عالم بمخاطر هذا الرفع ازاء شارع لم يعد قادرا على تحمل جنون تصاعد الاسعار وضعف الموارد ...فكان ماكان ...من كسر واضح للقرار وابطاله ترضية للناس .
القرارات الخائبة لم تقتصر على رفع الأسعار على شعب فقير صبور يشكو ضيم الفساد والعزوف عن محاسبة الفاسدين ورد منهوباتهم . وإنما تكللت بنبش اناس من غياهب التاريخ والأماكن وتقليدهم للجنسية الاردنية اعتباطا وتمكينهم من السيطرة على باقي الرمق كما حصل في تجنيس وتعيين المدعو (هنري عزام) لتولي مقاليد السيطرة على مدخرات الضمان الإجتماعي بعد عقد صفقة مريبة مع رئيس حكومة سابق لأجل ترقية كريمته وتسليمها إدارة هذا الصندوق .
هذه الطبخة العجيبة تحمل في طياتها استهتارا واضحا برأي الناس ومصيرهم، وتعيد الى الأذهان تحذيرات اطلقها السياسي الشهير (عمرو موسى) قبل اسبوع واحد ، وقد حذر فيها من انتقال العدوى السورية الى دول الجوار وخص منها بالذكر لبنان والاردن وتركيا وقد ظهرت علامات نبوئته السيئة في تركيا ولبنان ... وهي نتيجة بائسة نخشاها بالفعل .
هذا القرار الذي وصفته وسائل الاعلام بانه اتخذ محاباة لأحد الأصدقاء القدامى تمهيدا لانعاشه على حساب الأغلبية ، توحي بأننا لازلنا في معرض توزيع الغنائم على أهل الإستحقاق ممن نسينا حصتهم في هجمة الفساد السابق ولم يراعي صاحب القرار فيها مشاعر المواطنين وإحساسهم بخيبة الأمل والقنوط نتيجة تجاهل طلباتهم وتردي احوالهم المعيشية يوما بعد يوم.
ولم يأخذ بالحسبان أن لدينا ستة ملايين خبير بالسياسة ورقابة حركة النقود منذ تاريخ سكها في العهد الأموي حتى عصرنا هذا ...فلماذا لجأت الحكومة في اصعب الأوقات الى اختراع (هنري ) لم يصلح شأن أي بلد أو قرية في السابق أو اللاحق ، ولم يصلح شأن نفسه كما فعل شومان مثلا وتسليمه رقاب اناس يتشائمون من اسم (هنري الثامن) الذي وصف في بلاده على انه كان قاسيا وسفاحا ومقامرا ولا يجلب طاريه سوى الحظ النحس والفأل السيئ ؟