إن المشكلة التي يواجهها \"اليسار\" الفلسطيني في الوقت الحاضر تكمن في محاولته خلق موازنة زائفة تماثل بين قطبي الانقسام الوطني الراهن بين حركتي \"فتح\" و \"حماس\"، مما يهمش \"يسارا\" يحاول أن يكون محايدا بين القطبين ويوجه اللوم لكليهما بصورة متساوية، غير أن هذه \"محاولة للاختباء\" و\"تغطية لعجز\" اليساريين، لأن الاستقطاب الرئيسي في فلسطين اليوم ليس بين الديني وبين العلماني، لكنه بين التنسيق مع الاحتلال وبين مقاومته، وأي \"حياد\" في هذه الحالة هو خيار ترفضه غالبية الشعب الفلسطيني رفضا مفهوما وواضحا.
ما تقدم كان خلاصة رسالة بعث بها المناضل والمفكر الفلسطيني د. عزمي بشارة ـ ـ الذي يفخر بانتمائه القومي العربي دون أن يشكك أحد إلا قلة من اليساريين الفلسطينيين في كونه يساريا أيضا أو يشكك أحد من \"الإسلاميين\" في دفاعه عن حق شعبه المشروع في المقاومة ـ ـ إلى مؤتمر حول \"اليسار في فلسطين\" نظمته كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن في العاصمة البريطانية يومي 27 ـ 28 من شهر شباط / فبراير الماضي اختتم بنقاش طاولة مستديرة عنوانه \"نحو يسار جديد للكفاح الفلسطيني\".
لكن المؤتمر لم يخرج بأية حلول طويلة الأمد أو حتى بعناوين متوسطة الأمد يوصي اليساريون بها لقيادة النضال الوطني الفلسطيني، ناهيك عن أن أيا من المشاركين لم يشر حتى إشارة إلى الصراع الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني لا داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي ولا في المجتمع الفلسطيني الذي يمزقه الاحتلال والمستفيدون الفلسطينيون من ترتيبات الحكم الذاتي والتفاوض مع الاحتلال، مما يعكس الحال الراهن لليسار الفلسطيني الذي أصبح عمليا دون مشروع وطني أو اجتماعي.
فبعد أن كان هذا اليسار يتصدر المعارضة الوطنية لأية تسويات سياسية تهدد بتصفية القضية الفلسطينية وينازع حركة \"فتح\" إعلاميا على شرف إطلاق \"الرصاصة الأولى\"، يجد المراقب ورثته اليوم قد تحولوا إلى منظرين لذات التسويات التي كانوا يحذرون منها، في انحياز سافر لها يعجز عن إخفائه الادعاء اليساري الحالي بالحياد بينها وبين المقاومة سلمية كانت أم دفاعية.
وهذا الحال يثير أسئلة جادة حول الهوية السياسية لليسار الفلسطيني التي تراوح مكانها لاهثة وراء \"مشروع وطني\" من المفترض أن\"اليمين الفلسطيني\" ـ ـ وفقا لتصنيف اليسار ـ ـ هو الذي صنعه ويقوده برعاية الحليف الاستراتيجي الأميركي لدولة الاحتلال وتوابعه الأوروبية وبموافقة مشروطة تكتكتيكية على مضض من دولة الاحتلال نفسها، بحيث تحول اليسار إلى منظر غير مقنع لهذا المشروع، ليظل هذا اليسار يدور في حلقة مفرغة حول شعار إقامة دولة فلسطينية \"تنهي النزاع\" ب\"التفاوض\" مع دولة الاحتلال انطلاقا من (12%) من مساحة الضفة الفلسطينية لنهر الأردن المحتلة عام 1967، أو انطلاقا من مساحة (17%) المصنفة مناطق (أ) بموجب اتفاقيات أوسلو وهي المساحة التي \"تقترح\" واشنطن حاليا انسحاب قوات الاحتلال إلى حدودها التي كانت عليها قبل إعادة احتلال مناطق الحكم الذاتي عام 2002 كواحد من إجراءات \"تعزيز الثقة\" لإطلاق مباحثات تقارب غير مباشرة تقود إلى إحياء المفاوضات المباشرة وهو ما يعارضه \"اليسار الفلسطيني\" المؤتلف حاليا مع \"اليمين\" في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، دون أن يترجم معارضته هذه إلى موقف سياسي.
إن منع السلطات البريطانية للدكتور عزمي بشارة وليلى خالد وجمال جمعة من حضور مؤتمر \"اليسار في فلسطين\"، والتصنيف الأميركي والأوروبي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ك\"منظمة إرهابية\"، وهي العمود الفقري لليسار الفلسطيني، هي مؤشرات عقوبة لليسار الفلسطيني على ماضيه المقاوم أكثر مما هي عقوبة له على حاضره المتساوق مع المشاريع السياسية لليمين العالمي والوطني.
لكن من الواضح أيضا أن هذا اليسار ما زال مرفوضا من اليمين وطنيا وعالميا، وأن هذا اليمين لم يغفر لليسار الفلسطيني دوره المركزي في قيادة النضال الوطني الفلسطيني، وأنه ما زال يخشى صحوة لليسار تعيده إلى مرجعياته الفكرية التي أهلته لدوره القيادي ذاك، ويخشى كذلك أن يقود الرصيد التاريخي الكبير لليسار في النضال الوطني إلى الخروج من حالة الشلل والتشرذم التي يعاني منها حاليا، بالرغم من مجادلة البعض بأن اليسار الفلسطيني مات بعد أن استهلكه تساوقه مع اليمين في مشاريعه تساوقا طال أكثر من اللازم بحيث قضى، او يكاد، على دوره كقوة وطنية مستقلة ذات هوية سياسية واضحة.
وإذا كان لا يتوقع أي مراقب أي برنامج \"يساري\" يتعاطى مع الصراع الاجتماعي في مرحلة التحرر الوطني في وقت تعلن فيه حركة حماس أنها تعمل حاليا كحركة تحرر وطني وان برنامجها الاجتماعي مؤجل إلى ما بعد التحرير، للأسباب نفسها، فإن المراقب يستهجن ألا يكون لليسار برنامج ديموقراطي غير لفظي ينقله من دور ديكور تعددي لانفراد ما يصفه باليمين في قيادة العمل الوطني لفترة طالت أكثر مما ينبغي، وبخاصة بعد أن فقد هذا الانفراد قاعدته الشعبية وأصبح يستقوي ب\"المجتمع الدولي\" إياه ليحافظ على انفراده في القيادة، إلى دور يكون اليسار فيه درعا للدفاع عن الخيار الديموقراطي لشعبه، فربما يكون في دور كهذا مدخلا إلى عودة له إلى بعض دوره التاريخي.
إن \"الحياد\" في الانقسام الوطني الراهن بين الخيار الديموقراطي وبين مصادرته، مهما كانت الذرائع والحجج، مثل الواقعية السياسية والخشية من حصار هو قائم فعلا والتناقض بين الأيديولوجيا العلمانية وبين تلك الدينية، إلخ.، هو حياد تفوح منه رائحة انتهازية سياسية تتناقض تماما مع تاريخ اليسار الفلسطيني الذي تميز بالتزام صارم بالمبادئ والثوابت، أو هو حياد يشي بحالة عجز تسوغ القول إن اليسار قد استهلك دوره، وهو حياد تطغى السلبية عليه، بالمقارنة مع الحياد الأكثر إيجابية لقوى تعلن أنها \"مستقلة\" لكنها تعلن انحيازها للخيار الديموقراطي الفلسطيني وتظهر استجابة أفضل كثيرا للمطالبة الشعبية العارمة بالوحدة الوطنية لتطالب مثلا بقيادة وجبهة وطنية موحدة تنسجم مع مرحلة التحرر الوطني، لا بجبهة لليسار أو لليمين تفاقم الانقسام بدل إنهائه.
وفي هذا السياق يثير الاستهجان البحث المحموم عن \"جبهة لليسار\" ترفع حاليا كشعار في مواجهة المقاومة فقط بحجة أن قيادتها غير علمانية، بينما كانت جبهة كهذه استحقاقا وطنيا في مواجهة الانقلاب على استراتيجية \"التحرير\" في منظمة التحرير، وفي مواجهة انفراد ما يصفه اليساريون ب\"اليمين\" بقيادة هذه المنظمة وكذلك في مواجهة تهميشها. لكن ما يثير الاستهجان أكثر أن \"قوى اليسار\" قد فشلت حتى في إنجاز مشروع جبهة اليسار المنشودة هذه.
وللأمانة التاريخية فإن محاولات إنجاز جبهة كهذه، بالرغم من أن اليمين يستخدمها حاليا في مواجهة المقاومة، هي محاولات سبقت الانقسام الفلسطيني الراهن، مثل \"حركة الإصلاح الديموقراطي\" عام 1993 (تاريخ توقيع اتفاق أوسلو بواشنطن)، و\"الحركة الشعبية الديموقراطية الفلسطينية\" بعد عامين، و\"الحركة الديموقراطية الفلسطينية\" عام 1998، و\"التجمع الديموقراطي الفلسطيني\" عام 2003، وما بين هذه المحاولات الفاشلة.
لكن في كل الأحوال، فإن هذه المحاولات السابقة، والمستجد منها، ومثلها مبادرات \"المستقلين، مثل المبادرة الوطنية ومنتدى فلسطين في الداخل و\"الهيئة الوطنية الفلسطينية للدفاع عن الثوابت\" التي انطلقت من بيروت أواخر شباط / فبراير الماضي، أو \"المؤتمر الشعبي العام\" ولجان \"حق العودة\" التي تتكاثر بتسارع في المنافي والشتات، إنما تعبر عن استشعار بالحاجة إلى التغيير.
غير أن اللافت للنظر أن كل هذا التشظي وهذه المحاولات الباحثة عن تغيير الوضع الراهن لا تجري في إطار معسكر المقاومة بل في إطار \"معسكر التفاوض\"، وهو إطار منظمة التحرير الفلسطينية، واليسار أو من يصنفون أنفسهم كذلك هم في قلب هذا المعسكر الذي يرفع اليوم شعار المقاومة السلمية دون أن يسمح له التنسيق الأمني مع الاحتلال بممارسته، إن صدقت النوايا، بالرغم من وضع بعض أرجلهم في المعسكر الآخر، ليظل السؤال الأساسي مطروحا: اليسار الفلسطيني هو يسار ماذا الآن، ولماذا؟
أليست النتيجة المدمرة للحياد اليساري طوال العشرين عاما المنصرمة من التفاوض العقيم كافية لإجابة يسارية ـ ـ تنهي الحياد المنحاز لليسار الفلسطيني ـ ـ على السؤال الذي طرحه محمود عباس في تقريره إلى المجلس المركزي للمنظمة بتونس في تشرين الأول / أكتوبر عام 1993 بعد توقيعه \"إعلان المبادئ ـ أوسلو\" في واشنطن عندما قال إن \"هذه الاتفاقية إما أن توصلنا إلى دولة أو تقودنا إلى جهنم\"!
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*