كلنا يعرف المقصود بمفهوم الفساد الإداري، وما يدخل تحت مظلته من مفردات الاختلاس وسوء الائتمان والرشوة والواسطة ومحاباة الأقارب والمعارف ...الخ، أما المفهوم الآخر المهم الذي يغيب عن أذهان معظمنا، مع أنه فيما أزعم قد لا يقل بأضراره وتداعياته السلبية خطورة عن مفهوم الفساد الإداري نفسه، فإنه مفهوم الغباء الإداري! ومفهوم الغباء الإداري هذا يعبر عن نفسه عبر مظاهر وتجليات عديدة نعاني منها جميعاً كمواطنين بهذه الدرجة أو تلك، وقد يتبين لنا معناه بوضوح باستعراض بعض تلك المظاهر والتجليات. من مظاهر الغباء الإداري استقواء الموظف الحكومي على المواطن و \\"تشاطره\\" عليه، فتجد الموظف يتخذ كل الإجراءات المنصوص عليها، وغير المنصوص عليها، ويجتهد قدر طاقته حتى يضمن \\"حق\\" الحكومة، أو ما يعتقد أنه حقها، دون أن يكترث في قليل أو كثير بضمان حق المواطن، وكم من مواطن تم إجباره على دفع مبالغ مرهقة لخزينة الدولة بصورة استباقية واحترازية، على افتراض أن عليه دفعها عاجلاً أم آجلاً، ليكتشف لاحقاً أنها ليست من حق الحكومة على الإطلاق، وأن الاجتهاد الغبي من الموظف المتفذلك الذي تصرف وكأنه يأخذ نسبة لجيبه هو الذي ورطه بدفعها، مع ما يرتبط بإجراءات استرجاعها من خطوات طويلة ومرهقة ومذلة، قد تجعل المرء يفضل التخلي عن حقه على الغرق فيها! ومن تجليات الغباء الإداري إضاعة وقت المواطن وتوتير أعصابه وتفريغ حافظة نقوده بمطالب معقدة وكثيرة ومتشعبة، ومشاوير مكوكية عديدة، لا ضرورة لمعظمها، وأكاد أجزم أن ارتفاع نسبة المصابين بارتفاع الضغط والسكري في البلدان العربية تعود، في جانب منها، إلى اضطرار الناس بكثافة لمراجعة الدوائر الحكومية، التي أدعو الله أن يجنب شر مراجعتها كل حبيب! ومن صور الغباء الإداري جهل الموظف الحكومي بمبادئ ومهارات الاتصال والتواصل الإنساني والإيجابي الفعال مع المواطنين، حتى أنه كثيراً ما يشعرك، بتجهم وجهه وانعدام صبره على أسئلتك وجفاء ردوده وغلظتها، بأنك مجرد متسول جئت تستجدي رغيفاً من الخبز على باب داره! ومن صيغ الغباء الإداري جهل كثير من الموظفين بالإجراءات والخطوات السليمة التي ينبغي على المواطن اتباعها لإنجاز معاملته بسرعة ويسر؛ ما يفضي في كثير من الحالات إلى توريط المسكين بأخطاء حمقاء يدفع وحده ثمنها الباهظ، من وقته وماله وأعصابه! ومن تعابير الغباء الإداري التركيز المبالغ فيه على شكليات تافهة مضحكة لا معنى لها ـ ربما بدعوى حماية الموظفين لأنفسهم من أي مساءلة ـ كأن يتم مطالبتك من جانب وزارة مهمة وأنت بصدد مساعدتها في مشروع بحثي ما، بإرسال سيرتك الذاتية في مظروف محكم الإغلاق، مع رفض استعمال البريد الإلكتروني لهذه الغاية، كي يصار إلى فتحها والتوقيع عليها في اجتماع رسمي للجنة العطاءات في تلك الوزارة! هذا، ومن المهم الإشارة ـ على المستوى التنظيري ـ أن مفهوم الغباء الإداري كثيراً ما يتداخل ويتقاطع على نحو وثيق مع مفهوم \\"الاستغباء الإداري\\"، وهذا الأخير ينوّه بدوره إلى عدم خلو الأول منهما، أي الغباء الإداري، من قدر من اللؤم والخبث المتعمدين والمقصودين في بعض الأحيان، فالموظف قد يعرف أنه يتغابى، ولكنه يصر على تغابيه ما دام يعرف أنه لن يتحمل أي مسؤولية جرّاء ذلك، وأن المواطن وحده سيكون الضحية في الأول والأخير! وتبدو الحكومات ـ العربية طبعاً ـ في كثير من الأحوال مبدعة في تمثل مفهوم الاستغباء الإداري وتطبيقه، فعلى سبيل المثال، في دول العالم التي تحترم مواطنها فعلاً، وتكترث جدياً بأن يحصل على حقوقه قدر اكتراثها بأن يؤدي واجباته، نرى الحكومة تقتطع من دخل المواطن ضرائب تتناسب فعلياً مع مستوى دخله، ما دام يعمل ويتقاضى دخلاً مجزياً يفيض عن تغطية احتياجاته الأساسية من هذا المصدر أو ذاك، أما عندما تشاء الأقدار أن يتوقف ذلك المواطن عن العمل لسبب أو لآخر، كالبطالة أو الإفلاس أو العجز أو المرض ...الخ، فإن الحكومة لا تتوقف عن مطالبته بدفع الضرائب وحسب، بل إنها تقوم أيضاً بدعمه بدخل شهري يؤمن له ولأسرته حياة كريمة، ويقيه خطر الوقوع فريسة للذل والجوع والتشرد وسؤال الناس. في المقابل، وهذا ما يقع في باب الاستغباء الإداري، تكتفي الحكومات عندنا بضمان الشق الأول من المعادلة، وكأنها لا ترى الثاني على الإطلاق! فهي تثقل كاهل المواطن وتطارده بضرائبها الثقيلة كل الوقت، وكأنها شريكته المتطفلة التي لم يخترها والتي لا مناص منها، فيما يكسب من نقود، وبمجرد أن يغدو المسكين عاجزاً عن العمل ودفع الضرائب لسبب ما، تتنكر له بكل لؤم وإعراض، وتتركه لمواجهة مصيره البائس وحيداً شريداً بلا معين! على الحكومة الرشيدة ولا شك أن لا تكتفي بالسعي إلى مكافحة الفساد الإداري، بل إن من واجبها العمل أيضاً على مقارعة الوجه الآخر المستتر له، أي الغباء الإداري، ويكفينا استغباءاً يا حكوماتنا العربية بكل تأكيد!