بات من المؤكد أنّ دولة إسرائيل الكيان التي قامت على أراض الشعب الفلسطيني بمنطق القوة ، تعرف أكثر من غيرها أن أول ساعة تبشر بقرب انتهاء وجودها ووجود شعبها كفكر ومعتقد وحياة قد بدأت ، وذلك منذ الخطأ التاريخي السياسي الكبير الأول الذي وقع به زعماء اليهود الجدد لموافقتهم على قيام كيان خاص بهم فوق أرض فلسطين العربية حسب الرغبة ووجهة النظر الصهيونية التي تلحفت بالفكر اليهودي التلمودي الذي عرّفها بأرض الميعاد ، غافلة عن حقيقة أنها أرض الحشر والرباط اسما وواقعا عربيا فلسطينيا ، توافقا مع الثقافة الوطنية العربية ودين الله الإسلامي الحنيف الذي نسخ ما قبله ونفى وجود ما بعده إلى يوم الدين .
فقد كان لذلك السقوط المدوي والخطأ القاتل الذي أوقع يهود العالم وحاخاماتهم أنفسهم فيه نتيجة خضوعهم للفكر الصهيوني والماسوني الرديف الراغب بخلق دولة صهيونية فوق أرض فلسطين ، ولخلطهم بين المرتكزات التي يعتمد عليها كلا الفكرين اليهودي والصهيوني ، المرتكزين بالأساس على المعتقد التلمودي الذي شابه التحريف والتخريف والذي يشير لفلسطين كوطن قومي لليهود ، وعلى ما يسمى ببروتكولات حكماء صهيون الدموية التي تشير لفلسطين منطلقا نحو الإمبراطورية الإسرائيلية ، ومحاولة إقناع وإجبار كل يهود العالم على ضرورة دعم الفكر الصهيوني المنطلق من الأيدلوجية الصهيونية العلمانية المرتكز بالحقيقة أكثر على البعدين الثقافي والاقتصادي ، من أجل السيطرة على مقدرات العالم الاقتصادية وسلب مخزونه الثقافي ، بواسطة برنامجي الربا ، والجنس والمخدرات والإعلام المضلل والمفبرك ، لهدم اقتصاديات العالم ، وبهدف السيطرة على الإرادة الوطنية للشعوب المستهدفة بعد إفسادها وغسل أدمغتها ، ودفعها بالتالي للتخلي بمحض إرادتها عنها ، وبرنامج التزوير التاريخي للأزمنة والأمكنة لهدم ثقافة الشعوب بعد سرقة إرثها وتراثها لدفعها للولوج لثقافات غيرها .
فقد اعتمدت الحركة الصهيونية على هذا النمط والقالب الفكري ، مستغلة حقيقة خوف اليهود من إمكانية الفناء الفكري والعقائدي والوجودي في دول الغرب نتيجة لفسادهم وإفسادهم بكل الميادين ، موهمة إياهم أنه وللنفاد بأمان من هذه الحقيقة وللولوج لمرحلة البقاء الأبدي ، لا بد لهم من إعادة التلحف بجذور الدين اليهودي ولكن عبر البوابة الصهيونية العلمانية ذاتها ، بوصفها الحارس الأمين على الفكر والمعتقد اليهودي كما تشيع من أجل البقاء والتحكم السياسي ، وهو ذات المعتقد الذي انقلب علية اليهود المتدينين الأوائل أنفسهم ، منذ السبي البابلي وبعده بتزويرهم مرتكزاته ، والذي أباح لهم بعد ذلك السيطرة على أراضي الغير واستعباد شعوبها أو الفتك بهم حال رفضهم ومقاومتهم ذلك .
فقد تمكن زعماء الصهاينة وعلى رأسهم تيودور هرتزل وبن غوريون من تسجيل نجاح كبير وملحوظ مع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بإقناع يهود العالم الجدد بوجهة النظر الصهيونية بثوبها الديني ، بعد أن كان جميع يهود العالم وحاخاميهم يرفضون الفكرة والمعتقد الصهيوني ذاته لمعرفتهم آثاره ومخاطره على وجودهم وحتى على بقائهم ، فقد سجل النجاح لهم ذلك النجاح خلال وبعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي كان انعقد في مدينة بال السويسرية سنة 1897م ، بعد أن كانت أكثر من مدينة أوروبية رفضت استقبال المؤتمر بضغط من حاخامات اليهود أنفسهم والتي كان من بينها مدينة ميونخ الألمانية ، حيث دل هذا الموقف على وضوح المؤشر الذي دلل على بعد المسافة بين الفكر الصهيوني والمرتكز اليهودي العقائدي مع بدايات التنافس على قيادة يهود العالم .
إلا أنّ موقف حاخامات اليهود تغير جذريا وبشكل إيجابي من التحركات والأهداف الصهيونية التي أيدتها ودعت اليهود للاصطفاف خلفها ، لعدة أسباب كثيرة منها ، الإفرازات التي نتجت عن ضعف الدولة العثمانية ، وبسبب بروز العداء بين روسيا القيصرية بثقافتها المسيحية الأرثوذكسية مع الامبراطورية العثمانية بثقافتها الإسلامية ، التي وصفها الأوروبي المسيحي الكاثولوكي والبروتستنتي الكامن قرب حدودها الشمالية والشمالية الغربية بالرجل المريض ، وبعد بروز مؤشرات على قرب اشتعال حرب عالمية ضد دول الشر الذي ضم إضافة للعثمانية التركية والمانيا النمسا والمجر، وبعد اتخاذ دول وشعوب أوروبا مواقف عملية تأديبية ضد اليهود أنفسهم الفاسدين المفسدين في عموم أوروبا ، كل ذلك ضغط على زعماء اليهود الجدد المعتنقين لليهودية اللذين حاولوا استعادة إرث ديني هو ليس لهم ولا يمت لهم بصلة ، مما جعلهم يقعون ببراثن وحبائل الأطماع الصهيونية الراغبة بقيادتهم نحو دولة صهيونية الطابع .
فقد سارع حاخامات اليهود للموافقة على إقامتها وتحديدا في فلسطين للتفلت من القيادة الصهيونية لشعب إسرائيل ، وللخلاص من التدخل المسيحي الغربي في الحياة والخيارات السياسية اليهودية وبالبعد الثقافي المزور والاجتماعي المفكك لليهود ، الآمل بالتسريع بقدوم المسيح ، ولضمان تأييد ومؤازرة حكومات الغرب الكاملة لقيام تجمع لليهود خارج قارة أوروبا الآملة بتخلصيص شعوبها من الفساد والإفساد اليهودي ، حيث جاءت الفكرة التي نادت بها الصهيونية لتجربة مشروعها بدولة عالمية بطابع ديمقراطي ، محورها دول المشرق العربي وشمال أفريقيا وشمال الجزيرة العربية ، والتي أيدتها بتفاني وإخلاص دول شرق أوروبا الشيوعية لتجربة منهجها الاشتراكي بالحكم خارج حدودها ، وايدتها بحذر دول أوروبا الغربية للتخلص من تهم المحرقة وفبركاتها ، واحتضنتها ودافعت عنها الولايات المتحدة الإمريكية لاحقا من منطلقاتها السياسية والاقتصادية والدينية الوجودية الشبيه بالحال اليهودية ، وسكتت عليها أو غضت الطرف عنها بعض الدول المهزومة من داخلها وخارجها كتركيا الاتحاديين التي انتقلت من العثمانية الإسلامية إلى الإقليمية العلمانية .
ومن أجل التوفيق بين كل هذه الأطراف اليهودية والصهيونية والقوى المؤيدة لها من الشيوعية الإشتراكية الظلامية ، إلى الإمبريالية الأمريكية كما يصف كل طرف منهم للآخر ، وكافة القوى الأخرى المؤسسة والمؤيدة لقيامها والداعمة لبقائها ، جاءت تسمية الدولة الكيان بدولة إسرائيل الديمقراطية بموافقة يهودية وصهيونية صريحة ، لخداع العالم على أنها النظام الأمثل لإنصاف سكان فلسطين الذي رغب الغرب بالهروب بقضيتهم ومن ضميره إلى الأمام لإعطاءه أرضهم الفلسطينية للصهاينة واليهود ليقيموا عليها دولتهم القومية ، وثانيا بعد أن اقتنع كل من الصهاينة واليهود أنفسهم أنّ العالم يصر على أن يعيش اليهود والعرب في دولة إسرائيل بعد أن نظر وأعتبر واقتنع بدعاية صهيونية خارقة أنّ شعب فلسطين هم أقلية قومية يمكن لهم العيش بدولة إسرائيل الديمقراطية ، حيث كان لهم ما أرادوا في فترة الأربعينيات من القرن الماضي التي تميزت بجهل وضياع فكري فلسطيني ، وانشغال عربي وإسلامي بهمومهم ومشاكلهم وصراع شعوبهم مع المستعمر أو مع أنفسهم ، ولحاجة غربية وشرقية على حد سواء مشفوعة بالقوة العسكرية والمنطق الإستعماري .
إلا أن الحلم الصهيوني بنقل دولة إسرائيل من الدولة الديمقراطية إلى الدولة القومية لليهودية التي تعني طرد وترحيل أو قتل كل الجماعات الأخرى من غير اليهود ، ظل يعشعش بعقول الصهاينة وزعماءاليهود الجدد وحاخامتها المتلونين تارة بين الصهيونية واليهودية بعد تمكنهم من منطق القوة ، خاصة بعد أن تأكدوا أنّ الشعب الفلسطيني العدو اللدود لبرامجهم الاستيطانية والوجودية بحكم حقوقه وملكيته لأرض فلسطين ، بات وحيدا يصارع مخططاتهم بعد أن افتقد المشاركة الإسلامية والعربية الفعلية بصراعه مع الإسرائيلي وداعميه ، وبأنه لن ينسى حقوقه وثوابته في فلسطين ، وبأنه مصمم على نيلها كاملة غير منقوصة ، والذي تأكدوا منه عمليا ومباشرة وواضحا بعد مؤتمر كامب ديفيد الذي شارك به الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ويهودا باراك رئيس وزراء دولة إسرائيل الكيان ، حيث إصرار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على كافة الثوابت والحقوق الفلسطينية بخاصة قضيتا القدس والاجئين ، بتأييد ودعم من كبير مساعديه أمين سر اللجنة التفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك الرئيس الحالي محمود عباس ( ابو مازن) ، رغم التهديدات الأمريكية والأوروبية أنه في حال فشل المؤتمر سيقوم بالضغط على العالم للنظر إلى مقاومته للإحتلال على أنها شكل من أشكال الإرهاب ورغم التهديدات الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة باجتياح الضفة الغربية لنهر الأردن وتدمير السلطة الوطنية الفلسطينية ومقراتها ومقدراتها ، وحتى التهديد بقتل شخص الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وجميع قادة وكوادر السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها وعلى رأسها وأهمها قادة وكوادر حركة فتح ، والتي إزدات حدتها ووتيرتها بعد تولي الرئيس الفلسطيني محمودعباس( أبو مازن ) للسلطة وإثباته أنه ثابت على المواقف راسخ على الثوابت الفلسطينية ، وبأنه سياسي بارع ومقوم فذ ، أثبت فعليا وعمليا أنه الأقدر على نقل معاناة وتصورات شعبه وقضيته ، والأمتن بجدار الصمود الفلسطيني الأقوى على مجابهة وتحطيم العنف والصلف ضد الشعب الفلسطيني ، والممانعة الإسرائيلية ضد حلمه وأمله ، حيث ولمجابهة ذلك تمكنت دولة الإحتلال من خلق ثقافة عيب وطنية جديدة في بعض العقول العربية والفلسطينية التي أخذت على عاتقها مهاجمة القيادة والرئيس الفلسطيني وتدمير آمال الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال .
ونتيجة لكل هذه الإرهاصات والتحولات بإيجابياتها وسلبياتها ، تأكدت دولة إسرائيل الكيان أن ديمقراطية الدولة ، المشروع السياسي الذي بدأته لم يعد بصالحها السياسي مع أنه لصالح بقاء شعبها ، خاصة بعد تأكدها من جدية الموقف الفلسطيني بإعلان الدولة الفلسطينية بالإتفاق أو من طرف واحد نهاية العام 2011م ، فقررت كل القوى اليهودية والصهيونية نقل الدولة من الديمقراطية المزيفة والتي قُبل وجودها عهودا وسنوات بين العرب إعتمادا وارتكازا على منطق القوة ، إلى اليهودية للتفلت من ذراع العدالة الدولية والقبضة الفلسطينية القوية ، والتي ستتفجر من داخلها وتعرض شعبها للدمار بعد أقل من بضع سنوات حال إعلانها ، بسبب القراءة غير صحيحة للقوة وللزمن الذي لم يعد بالمطلق بصالحهم بسبب الحال الدولية والأممية التي تغيرت كثيرا لصالح قضية فلسطين ، والحال الفلسطينية التي ستعود لوعيها بعد تلاحمها من جديد ووقوفها خلف قيادتها الشرعية ، وللواقع العربي والإسلامي الذي تبدل لمصلحة المشاركة الفعلية بدعم الصمود الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال .
Alqaisi_jothor2000@yahoo.com