لم يعرف الأردنيون، ومعهم العالم كله، إلا بعد ثلاثين عاما حيث أفرجت بريطانيا عن وثائقها السرية أن الملك حسين، رحمه الله الرحمة الواسعة، بذل جهودا مضنية وأنه في لحظة من اللحظات أوشك أن يتخذ واحدا من أصعب القرارات التي اتخذها في حياته الحافلة بالأحداث الجسام لوقف تدهور الأوضاع في لبنان بعد أن تحولت الحرب الأهلية اللبنانية في النصف الثاني من العام 1978 إلى استهداف إقليمي للمسيحيين، الموارنة على وجه التحديد، وتعرضت مناطقهم وبخاصة منطقة الأشرفية وجوارها إلى قصف مدفعي ثقيل تواصل لنحو ثلاثة شهور وأكثر قليلا. وحسب هذه الوثائق فإن الراحل الكبير كان يرى أن استهداف المسيحيين وعزلهم واعتبارهم إنعزاليين سوف يدفعهم لطلب حماية إسرائيل وسوف يوفر للدولة الإسرائيلية الفرصة التاريخية التي بقيت تنتظرها لدخول عاصمة عربية وهذا ما حصل فعلا في حــزيران (يونيو) العام 1982 حيث غزا الجيش الإسرائيلي لبنان واحتل العاصمة بيروت وقد ترتب على هذا الغزو كل ما جرى من أحداث وتطورات بداية بإخراج منظمة التحرير وفصائلها من الأراضي اللبنانية واستمرارا إلى أن حصل الذي حصل في العام 2005 وبعد ذلك. كان الملك حسين ضد إدخال جيش التحرير الفلسطيني أو أي وحدات عسكرية تلبس لباس جيش التحرير الفلسطيني وتحمل شعاراته إلى لبنان وكان يصر على أن هذا سيوفر المبرر الذي سيدفع إسرائيل لتحريك جيوشها في إتجاه الأراضي اللبنانية ولذلك ولأن بعض الأطراف العربية واللبنانية قد قاومت وجهة نظره ورفضتها فإنه أبدى استعدادا لإرسال لواء عسكري من الجيش العربي، القوات المسلحة الأردنية، للمرابطة في المناطق المسيحية ولكن بشروط لم تتم الموافقة عليها من قبل بعض الجهات الفاعلة فانتهت هذه الفكرة وطوي هذا الملف فحدث ما حدث وحصل كل ما توقعه رحمه الله. لم يكن الملك حسين يريد حصة في لبنان لا من خلال قوات الردع العربية ولا من خارجها وهو كان يعرف معرفة أكيدة أن المشاركة في هذه القوات بلواء من الجيش العربي سوف يعطل مشاريع كثيرة وسوف يقاومه أصحاب هذه المشاريع لكنه تحت إلحاح المصلحة العربية العليا ولتجنب دفع المسيحيين دفعا للأحضان الإسرائيلية فإنه بقي يصر على وجهة نظره هذه الأنفة الذكر، التي نالت تأييد الرئيس اللبناني الأسبق إلياس سركيس ومعظم القيادات المسيحية الفاعلة، التي بالنتيجة اصطدمت بمعادلة إقليمية حالت دون تنفيذها. والسؤال الذي من المفيد طرحه الآن في ضوء ما تضمنته الوثائق البريطانية التي تم الإفراج عنها هو : هل كان من الممكن يا ترى أن يحصل ما حصل في لبنان قبل الغزو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية في العام 1982 وبعده وحتى الآن وحتى ما بعد الآن لو أن الأطراف التي كانت فاعلة في المعادلة الإقليمية في ذلك الحين قد استمعت إلى وجه نظر الملك حسين بعيدا عن الحسابات الشخصية الضيقة ولو أنها أخذت بها وبتغليب المصالح العليا للأمة العربية على هذه الحسابات الشخصية الضيقة..؟!. في كل الأحوال أن هذا هو قدر هذا البلد وقدر قيادته وشعبه والمفترض الآن أن العرب ومعهم بعض الأشقاء الفلسطينيين الذين وقفوا ضد عبدالله الأول بن الحسين وأفكاره تجاه القضية الفلسطينية وبخاصة مسألة قرار التقسيم الشهير أن يقروا بأنهم ارتكبوا جريمة بحق هذه القضية.. ويبقى أنه على الأردنيين أن يتساءلوا عن الأسباب التي حالت دون إطلاعهم على كل هذه الحقائق في وقتها ليقرأوها بعد كل هذه الأعوام في الوثائق البريطانية التي تم الإفراج عنها قبل أيام !!.