أيام الشلايا ....
بقلم الدكتور محمد فاروق المومني
أذكر في الخمسينات ان قرى المومنية كانت تعج بقطعان الماعز البلدية السوداء وكان الناس يسمون كل قطيع (شليّة) ومجموعها شلايا ، وكان لديهم عدة قطعان من الأبقار ويطلقون على كل قطيع منها (عجّال) ولكني لم اسمع بجمع كلمة عجّال وظلت مفردة في ذهني الى اليوم ، وإذا اردت ان ازيد العدد اقول عجّالين ولم استسغ كلمة عجاجيل لأنها على وزن عييايل والعيّل في اللهجة البدوية الاردنية هو الطفل الصغير .
كان لديهم قليل من الجمال و الخيل وبعض البغال أما الحمير فحدث ولا حرج ولعل صوتها المزعج بعد الغروب يقطع صمت المكان ، ويبدد السكينة في ساعات خلود الناس للراحة ....إنها حياة الريف بكل معانيها المرتبطة بالطبيعة التي ندرت فيها الماكنا والموتور بكل أشكاله .
لم يكن لدينا أغنام بيضاء رغم إعجاب كل الناس بفضائلها وحسن طباعها في الإنقياد بخفة وسلاسة خلف الراعي ، ولم أكن أعرف سرّ عزوف الناس عن اقتنائها واستبدالها بالماعز التي تشبه القردة في طباعها او طبع الصبيان من حيث الإصرار على المشاكسة وتعدي الحدود والتمرد على القادة .
كان توفير الغذاء للمواشي يشكل عبئا ثقيلا على كل أفراد الأسرة، فالأعلاف لا يشتريها أحد و على الجميع لزوم التكيّف مع الواقع واستخدام كل الموارد المتوافرة في الطبيعة ، وهكذا تجد ان كل الاسر تحرص على تخزين التبن والشعير وبقايا الأعشاب المجففة لمواجهة أيام الشتاء والثلوج وكل ظرف طارئ.
من هنا أحببت الأغنام والجمال ورأيتها أفضل المواشي لأن رعي الغنم مريح و تغذية الجمل سهلة للغاية فهو يلتهم كل شيئ في طريقة ويبتلع الأشواك التي لا تقربها الماعز ، وكم كنت اتمنى التخلص منها كفاية لشر ابرها التي لا ترحم عابرسبيل .
بعد عمر طويل من هجر القرية عدت برغبة تجديد التاريخ والماضي المفقود واقتنيت (شلية غنم )كبيرة وليست ماعز وبذلك حققت أمنية قديمة وسعدت بما اقتنيت ، ولكني وجدت نفسي مستجدا على معارف الإقتناء التي نسيتها قسرا في المدينة .
اقتنيت (شليتي) الجديدة قرب (ذيبان وضبعة) وسط الاردن وأطلقتها مع الرعيان حتى نهاية الربيع وكانت سعيدة بمرعاها ... وعند حلول الصيف حل القحط واضمحلت موارد الطبيعة فقررت الارتحال بها الى جبل عجلون حيث وفرة الكلأ والماء ...إنها عين البداوة التي تجددها فينا دوافع الحنين الى الماضي اينما ارتحل بنا الزمان والمكان .
في جبل عجلون كان (لشليتي) العصرية قصة مختلفة ، فهي لم تألف المكان ولم يألفه الراعي أيضا ، واضطررت الى استخدام راع مرافق للراعي لكي يشد من أزره وأضفت للقطيع كلبا بلديا قلما ينقطع عن النباح ...وأخيرا دب المرض والهزال في القطيع رغم وفرة الغذاء واكتشفت بالنتيجة ان الغنم البيضاء (تتزاول) أي تخاف من الشجيرات الصغيرة وتجفل من الظلال ، كما انها تخطأ في التهام صنف سام من الأعشاب الجبلية الذي يقضي عليها بالحال .
وهنا اكتشفت ان تجربة الآباء والأجداد في اقتناء الماعز في جبالنا لم تكن تجربة عبثية عابرة، وإنما تعد شكلا من أشكال تجارب الأمم والشعوب التي ترشد للحكمة ...وأخيرا قررت العودة من حيث أتيت ، ولكي استريح من هم الرعيان فقد تعاقدت مع عائلة محلية من ابناء المنطقة وسلمتهم الجمل بما حمل (أقصد الشلية ) مقابل نصف ناتجها من الصوف والحليب واكتشفت حينها من طعم ونكهة الحليب واللبن والجميد ، ان كل مشتقات الالبان التي استهلكتها في حياتي منذ تركت القرية كانت مغشوشة رغم كل الأيمان الكاذبة التي سمعتها من الباعة للتأكيد بأصالتها .
وهنا ادهشتني معارف الشريك بعلم الرعي والرعاية ...حيث تعلمت منه مالم أعرفه من قبل في جبالنا وهوعلم إعداد مرشد القطيع (المرياع ) المميز بقرنيه العظيمين وصوفه الطويل المزركش بألوان قوس قزح ، وكان سبب جهالتي بهذه المعرفة راجعا لكون أنعامنا قد تأصلت على طبع التمرد و المشاكسة وغدت لا تنقاد طوعا وراء (مرياع) ولا راعي ، وزادت معارفي اكثر وأكثر باكتشاف خلطة الدواء العجيب لكل مرض غريب ، وهي مكونة من القطران والثوم والكبريت وبعض الأدعية ....ولكل علم عالم ورب عليم .
قام شريكي بعزل خروف وليد عن أمه في اليوم الأول لولادته ، ووضعه بين افراد العائلة في بيت الشعر وأصبحت سيدة المنزل تطعمه من حليب أمه (بالرّضّاعة) حتى كبر في كنف الأسرة وتعود على ملازمتها ....وهكذا تمكن الشريك البارع من خلق رابطة سيكولوجية مابين الخروف الذي كبر وأصبح كبشا مهيبا وبين الإنسان الذي شكل قدوة له وسيدا متبوعا في كل الأحوال.
وبالنتيجة جلس الشريك في البيت وشكل شيخا للمنزل وندب أحد أطفالة لمرافقة القطيع والسير امامه بحثا عن الكلأ والماء والتزم (المرياع) في تبعية خطوات الصبي أينما ذهب ، والتحق القطيع بالمرياع وسارت القافلة بهدوء الى المرعى .....وعندما عدت الى المدينة واكتشفت ان لكل سياسي (مرياع ) مخصوص منصوص ،عجبت من براعة سياسي المدينة الذي اكتشف علم التبعية والإنقياد في الازقة وليس عبر الأرياف والبوادي .....انها حكمة بالفعل ولا أدري مايليها .....