لم يكن والدي -رحمه الله- يعلم بعد أن تخرّج من كلية الحقوق من جامعة دمشق عام 1968 و بعد إلتحاقه بجهاز الامن العام أنه سيصبح مديرًا لدائرةٍ من أخطر الدوائر في الامن العام و هي (دائرة مكافحة المخدرات و التزييف) كما كانت تسمى في بداية الثمانينات، و لم يكن يعلم أيضًا ما قد خبأته له الأيام القادمة !.
عندما تكون مديرًا لإدارة مكافحة المخدرات تكون بين خيارين صعبين فإما أن تُقاوم بشراسة و قوة كافة أصناف المهربين-كما فعل والدي- أو أن تقف متفرجًا على بعض (اللاعبين الكبار) دون أن تمسهم بسوء ، و لقد كان الخيار الذي إختاره والدي من الخيارات الصعبة و القاسية ، فكيف تُقاوم اولئك المتنفذين الذين يعتبرون هذا البلد مزرعة خاصة لهم! و كيف تقف في وجه المهربين و منهم من هو في أعلى المناصب و أرفعها! فكانت تلك المسرحية (المُتقنة) تحت شعار (مكافحة الفساد) في ذلك الوقت و التي ذهب ضحيتَها من ذهب من رجال شرفاء ، حيث يصعب الخوض في التفاصيل الان ، و لكن (التُهمة) كانت جاهزة و الشهودُ جاهزون و التقاريرُ أمام ( القُضاة) تنطقُ بالإدانة ! و كبار القوم يُباركون و الضحية جاهزة للذبح و( الشعار) موجود و مرفوع و معلن و هو (مكافحة الفساد) و الاحكام جاهزةٌ و مُفصلّة،و المهربون الحقيقيون في بيوتهم أو مزارعهم يتسامرون ، و إلاعلام الرسمي الوحيد في تلك الفترة يصول و يجول كيف شاء ، فيرفعُ من يشاء و يخفضُ من يشاء…….و كانت فصول المسرحية …….
ليس بعيدًا عنا أيضا تلك المحكمة (المهزلة) التي تم تجهيزها للوطني الحقيقي ( ليث شبيلات) والتي دارت فصولها بين (شاهد زور) تم إحضاره من خارج الاردن للشهادة في (المحكمة الموقرة) ثم بعض الوثائق الهزيلة (المفبركة ) ، و كان (شعار) تلك المرحلة موجودًا و جاهزًا أيضا و كان يرفعه بعض ( الساقطين) ، و يُحاكم الرجل و يُسجن و يكون الإعلام الرسمي مرة أخرى مع ( الحق!) و مع ما تقوله تلك ( التقارير) التي لا تنطقُ الا بالإدانة و التشويه و التزييف، و هو الرجل الذي كان بالمناسبة خلف التصويت في مجلس النواب على قرار إحالة (رئيس الوزراء ) في تلك الحقبة الى التحقيق ومحاولة رفع الحصانة عنه لولا أن ( أسعفه الحظ) بفارق صوت واحد فقط في مجلس النواب ، و لم يتم تحويل (دولة الرئيس) الى التحقيق في قضايا فساد حقيقية! في الوقت الذي تم فيه تحويل (ليث شبيلات) الى السجن بقرار من شخص أو شخصين و تم تجهيز المسرحية باتقان لولا أن تداركه رحمةً من ربه!!!.
هذه الايام أيضًا لدينا (شعار) قديم جديد، و لدينا (تُهم) جاهزة و لدينا (تقارير) تتحدث عن فساد و إستغلال و سوء إستخدام للسلطة و لدينا (ضحايا) قد تم إختيارهم بدقة و لعل (الاحكام) أيضا جاهزة !! و ما تبّقى هو بعض المؤثرات الصوتية و التي يُبدع بها إعلامُنا الرسمي بلا مُنازع، و بعض الكُتّاب الذين تم شراء ذممهم بثمن بخس أو ببعض المواقع و الكراسي التي ستبصقُ عليهم عندما يتقاعدون ،و يحق لنا أن نتساءل عن هذه الضجة الكبيرة المفتعلة لهذا (العطاء)، هل هي ضجة حقيقية؟ أم يُراد بها أن تكون (مسرحية بوليسية) أبطالها معروفون تنتهي نهاية حزينة تنتصر بها (قوى الخير !!) التي تريد الخير لهذا البلد و لهذا الوطن كما يدعون !و تجعل من أولئك النفر (أكباش فداء) لشعار هذه المرحلة الذي يجب أن يُرفع مرة تلو مرة !! و نتساءل أيضا عن بعض المفسدين و بعض (اللصوص الحقيقيّين) و بعض (المارقين) الذين عاثوا فسادًا في الاردن و يعرفهم الناس بالإسم و الكنية ويعرفون شركاتهم وعطاءاتهم الفاسدة التي (ربحوها) ليس لانهم قد دخلوا في تنافس شريف بل لانهم يعرفون كيف (يكسبون) حتى أن بعضهم أصبح اسمه يقترنُ بعطاء (للسيارات الحكومية) قد رسى عليه (بقدرة قادر) في منافسة ( شريفة!!) و يصبحُ بعدها ربما رمزًا من رموز الوطن !!! ثم أين الذي اختلس مئات الملايين في صفقة فاسدة قامت السلطات حينها بالتدخل و ايقافه عن العمل في دائرته الحساسة !! لماذا لم يُعاقبوا و لماذا لم (يتبهدلوا) و لماذا لم يحاسبوا بشكل كامل ....أم أن المثل الاردني الذي يقول (ناس عيبها في السوق..و ناس عيبها في الصندوق) هو مثل صحيح.
قد يفهم البعض (قليلو الفهم) من كُتاب صحف و إعلاميين وفاسدين تم تدريبهم بشكل (غير لائق) أنني ضد محاربة الفساد و أهله و هذا ظلم أيضا، نحن أول من يقف مع محاربة الفساد و أول من يُحيّي من يوقفه بأشكاله المختلفة، و لكن الذي يحصل في دول عالمنا المتخلف أن التطبيق مشئوم، و أن الضحايا المظلومة متعددة ، و أن (المفسدين الحقيقيين) الذين يجب أن يحاسبوا يصلون الى أعلى المراتب و يبقون في مناصبهم و يتحدثون بكل جرأة و وقاحة عن محاربة الفساد في وسائل الاعلام و في جلساتهم المختلفة و لربما أصبحوا أحيانا أبطالا يتقلدون أوسمةً و القابًا و أشياء أخرى .
م. غيث هاني القضاة
ghaith@azure-pools.com