ذاث يوم هرع والدي – رحمه الله- من أقصى الجنوب حيث كان حينها ضابطا" برتبة ملازم إلى بيت الشهيد وصفي التل –رحمه الله- عندما كان رئيسا" للوزراء ليساعده في حل مشكلة واجهته أثناء خدمته العسكرية ، فما إن أستقبله الحرس ليعرفوا طلبه وحاجته أبلغوا دولة الشهيد بان هنالك من يريد مقابلته فأمرهم بالسماح له على الفور ليطلع على حاجته ، فما إن دخل إلى ساحة بيته تفاجأ والدي برئيس الوزراء آنذاك يمتطي ( بغلته ) ويقوم بحرث أرض مزرعته ....!
هي قصة طويلة يطول سردها لكن وقطعا" ما أخذني وشدني فيها ليس قضية أبي – رحمه الله-بل مشهد مر في ثنايا ذكرها عن حالة من حالات الزمن الفريد التي أعتقد بانها لن تتكرر في زماننا الراهن ، رئيس وزراء ووزير دفاع يحرث أرضه بنفسه وعلى ( بغلة ) ورئيس وزراء لم يستخدم وزارة الزراعة في حكومته لتزرع أرضه ،رئيس وزراء لم يطلب تراكتور زراعي أو جرار ليحرث أرضه ، أو يطلب كبار العلماء في الزراعة ليشرفوا على زرعها وحرثها أيقنت في قرارة نفسي أن وصفي كان مسكونا" في حب الأرض ولم ياخذه المنصب أو الهوى بعيدا" عنها وعن حب شعبها فإذا صادفت في هذا الزمان من عاصر وصفي ممن كتب لهم طول العمر وسألته عن وصفي أجزم بأن دموع العين ستنهمر من مقلة عينيه بمجرد ذكر إسمه كيف لا ؟ فوصفي لم يعش في أيامه ليبني قصورا" يخلد إليها في راحته من العمل العام او شركات تدير عليه الصفقات والدولارات حسبها ان تكفيهه في السياحة والإستجمام ولم يشغله المنصب والجاه بأن يرتحل من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ليرى بام عينيه كيف تعبد الشوارع وتشق الطرق وما حال الزراع والحراثين يجلس مع عامة الشعب في قراهم وأريافهم وبيوت الشعر ومخيماتهم ...يتابع ويسأل عن احوالهم ، يشرب من ( شايهم ) ويأكل معهم ( القلاية ) يشد من أزرهم ليشعرهم بانه منهم وإليهم .....فأحبه الجنوب والوسط والشمال ...!
في زمن وصفي لم يكن هنالك قنوات فضائية او مواقع إلكترونية أو صحف منتشرة كما هو حال الإعلام بكل أشكاله اليوم لتغطي جولاته أو تسجل كلماته أو تصور جلساته مع عامة الناس كما تستخدم الآن لتبرز إنجازاته وتزيد من شعبيته ومع ذلك تغنى به الناس عند الكرب ...( فوق التل تحت التل ...أسأل عنا وصفي التل ) أو ( فوق التل تحت التل إحنا رجالك يا وصفي التل ) ..فلا غرابة ان يشعر في ذلك الزمان المعاني ان وصفي التل هو معاني أو الطفيلي بان وصفي هو طفيلي والمقدسي بان وصفي مقدسيا" أو خليليا" فوصفي جمع مفردات الوطن بأكمله ليعبر بها وبذاته أنه صورة لوطن ولعل أزهى وأجمل ما بوصفي إنه كان جامعا" للعسكرية أو الفدائية بكل معنى الكلمة وفن السياسة فكان تاريخه حافلا" في النضال والمقاومة العسكرية في فلسطين فعشق الجيش وتغنى به شعرا" ولعلك تشعر بصدق مشاعره حينما تقرأ قصيدته الشعرية :
تخسى يا كوبان ما أنت ولفي إلي
ولفي شاري الموت لابس عسكري
يزهى بثوب العز واقف معتلي
بعيون صقر للقنص متحضر
فالكلمات مهما كتبت في حق دولة الشهيد وصفي فهي لن تفي قطرة دم واحدة سكبت من دماءه فوصفي تاريخ ينبغي علينا في هذا الزمان أن نخرجه للملأ عبر المناهج الدراسية التي تدرس في المدارس والمعاهد والجامعات ليتعلموا منها كيف يكون النبل والعطاء وحلقات تدرس في فضائنا الإعلامي الواسع كيف يجب أن يكون رجل الدولة رهينا" لتطلعات شعبه وأمته تماما" كما كان وصفي ، ولعلها أيضا" صرخة لأدباءنا أن يكتبوا ويألفوا في مواقف وصفي قصصا" علنا نحكيها ونرويها لأطفالنا لعل روح وصفي تعود من جديد وكذلك هي صرخة لرواد الحركة الفنية من منتجين ومخرجين بأن يخرجوا شيئا" من إبداعهم تعبر عن وصفي بصورة مسلسل أو فيلم فروعة وصفي وحبه لوطنه تستحق منهم ذلك .......!
فإليك يا دولة الشهيد كتبت هذه الكلمات أواسي نفسي علنا في يوم من الأيام نستفيق بمن ينتهج نهجك في تكريس مفهوم الإيثار لشعبه لا الإستئثار ولن أنسى طيلة حياتي بأنك مت شهيدا" وتركت لنا سجلا" ناصع البياض في التضحية والفداء وكفاني بكلمات الراحل الحسين الباني -طيب الله ثراه – خاتما" لسيرتك العطرة حينما واسى شعبه بموتك " لقد كان وصفي جنديا" منذورا" لأمته ووطنه فكان اوفى الرجال " ، وكفاني أيضا" أن أقول لك مودعا" في هذا الزمان أفتقدناك ...